جرت العادة أن يكون وزير الخارجية في أي دولة دبلوماسيا في تصريحاته وحواراته ومقابلاته، لكن وزير خارجيتنا سعادة الدكتور عبد اللطيف راشد الزياني (وفقه الله) كسر هذه القاعدة حينما إجتمع مؤخرا في ديوان وزارة الخارجية مع نفر من أصحاب القلم والفكر البحرينيين. أما لماذا فعل سعادته ذلك واستبدل الدبلوماسية بالصراحة فلأن حديثه كان حول الوطن وسلامته وأمنه واستقراره وما اتخذته القيادة البحرينية الرشيدة من قرارات يصب في مصلحة السلام والأمن.
في كل دول العالم تبقى قضية الوطن هي الأولى والأخيرة، وما عداها من قضايا تظل في مؤخرة الإهتمامات، إلا في الدول العربية. وقد جسد سعادة وزير الداخلية الشيخ راشد بن عبدالله آل خليفة هذا في تصريحاته الأخيرة حينما قال أنه إذا كانت قضية فلسطين هي قضية العرب الأولى فإن البحرين هي قضيتنا المصيرية التي لا تعلوها أي قضية.
نعم، هذه هي البحرين التي لا تزال فلسطين في ضميرها، ولم تتخل عنها، وشاركت مع بقية الأشقاء العرب في دعمها في كل المحافل على مدى الأعوام السبعين الماضية، لكن حينما يكون الوطن مهددا في أمنه ومصالحه فإن الأولوية تكون له ولخيار السلام.
غير أن البعض، من سدنة اليسار ورافعي الشعارات القومية المتكلسة ومناصري فكرة “الأمة قبل الوطن“، لا يعجبهم هذا الكلام، ولا يزالون غارقين في أحلام الخمسينات والستينات، وما برحوا متعلقين بشعارات “لا صوت يعلو فوق صوت المعركة“، و“تحرير فلسطين من النهر إلى البحر” و“بالروح .. بالدم .. نفديك يا فلسطين” وما عاداها من شعارات فشلت في تحرير بوصة من الأرض السليبة، دعك من الكوارث والدماء والآلام التي تسببوا فيها لأنفسهم وأوطانهم قتلا وخرابا وتدميرا، بسبب جمود أفكارهم وبؤس قراءتهم للأحداث والتطورات الإقليمية والدولية منذ انهيار الإتحاد السوفيتي، والغزو العراقي للكويت.
هذا المنحى تجدد مؤخرا مع قرار دولة الإمارات العربية المتحدة وشقيقتها البحرين التوقيع على معاهدة سلام مع دولة إسرائيل، وبدا واضحا جليا في التعقيبات والمداخلات التي تلت حديث وزير الخارجية الذي حرص فيه على توضيح جوانب التطورات الأخيرة مع إسرائيل وتداعياتها المستقبلية في عالم ديناميكي تغيرت فيه المفاهيم والمصالح والمعادلات الجيوسياسية وأسلحة المواجهة.
البعض من أصحاب هذا المنحى يريد أن تترك حكومة البحرين العنان لهم كي يقولوا ما يشاؤون في مقالاتهم ومقابلاتهم وكتاباتهم، طعنا في قرارات القيادة الرشيدة حول العلاقات الجديدة مع إسرائيل، مستخدمين شعار “حرية الرأي والتعبير” مدخلا لتحقيق ذلك، وكأنهم أدرى بمصالح الوطن وأعلم بالمستجدات التي جعلت البحرين والإمارات تخرج من نفق السياسات القديمة المتكلسة إلى سياسات واقعية جديدة.
يحدث هذا في الوقت الذي لا يريد فيه أصحاب القضية الفلسطينية أنفسهم حلا لها (لأن في حلها خسارة لمصالحهم الشخصية) بدليل استمرارهم في الصراع العبثي على السلطة في الضفة الغربية وقطاع غزة وتكالبهم على الغنائم والمساعدات القادمة من الخارج، علاوة على تمسكهم بما ميز القضية الفلسطينية منذ الأزل وهو رفض مبادرات السلام الواحدة تلو الأخرى، إلا إذا توافقت مضامينها كليا مع رؤيتهم وحدهم.
كما أنه يحدث في الوقت الذي لم تدخر فيه القيادات الفلسطينية شتيمة إلا وقالتها في حق دول الخليج التي لطالما وقفت إلى جانبها في السراء والضراء. وحينما كنا نشكو من قيام فلسطينيين علنا وأمام وسائل الإعلام بتمزيق صور قادتنا وحرق أعلام بلداننا والخروج للرقص وتوزيع الحلوى في الشوارع عند أي مصيبة تحل علنا (كما حدث أثناء إطلاق صدام حسين لصواريخه على الكويت والسعودية والبحرين في حرب الخليج الثانية)، كانوا يقولون لنا أن هؤلاء مجرد حفنة من الفلسطينيين، ولا يمكن أخذ الكل بجريرة البعض. لكن اتضح الآن أن قياداتهم تشاركهم ذات التوجهات. وما الفيديو المنتشر في وسائل التواصل الإجتماعي حول ما دار في إجتماع الفصائل الفلسطينية الأخير برئاسة محمود عباس إلا دليل أسطع من الشمس على صحة استنتاجنا. ففي هذا الفيديو ألقى أحد القادة الفلسطينيين العواجيز خطابا عرمرميا حرض فيه مواطنيه المقيمين في دولة الإمارات على تشكيل فصائل مسلحة لوقف التطبيع، متناسيا أن القيادة الفلسطينية هي أول من طبعت وفتحت قنوات الإتصال الواسعة مع إسرائيل. ومثل هذا ــ بطبيعة الحال ــ لم يحدث في أي مكان آخر، ونعني به أن تحرم على غيرك ما تقوم به بنفسك.
وفي لقائنا مع وزير الخارجية لم يجد البعض أمامه سوى التباكي على القضية الفلسطينية من منظور إنساني، بمعنى “كيف تفتح البحرين قنوات إتصال مع إسرائيل وأشقاؤنا الفلسطينيون يشكون من ظلمها وتعسفها ويـُقتلون بأيدي جنودها؟” ومثل هذا السؤال يمكن الرد عليه بتساؤل آخر هو “ألم يقتل الفلسطينيون بعضهم بعضا في معاركهم العبثية من أجل السلطة والقيادة بأعداد أكبر من تلك التي قتلت بأيدي الجنود الإسرائيليين؟” و“ألم يصفوا بعضهم بعضا في مخيمات البؤس والشقاء في الأردن ولبنان وسوريا من خلال الإرتهان لبعض الأنظمة العربية التي كانت تسمى زورا بالأنظمة التقدمية؟“.
والحقيقة أن الفلسطينيين لم يكتفوا بتلك المعارك البينية، بل دمروا وهم يخوضون صراعاتهم العبثية أوطانا زاهية مسالمة مثل لبنان، وكادوا أن يدمروا قبل ذلك الأردن. كما أن شتائمهم وتخوينهم شملت الكل بما فيهم الرئيس المصري جمال عبدالناصر لمجرد أنه وافق على مبادرة روجرز.
وأتذكر أننا حينما كنا طلبة ندرس في بيروت نالنا قسط وافر من شتائمهم وإعتداءاتهم البدنية، التي وصلت حد الإستيلاء على شققنا السكنية وحاجاتنا الشخصية وتمزيق كتبنا الدراسية وتعريتنا من ثيابنا، فقط لأننا من دول النفط الغنية كما قالوا.
كم ولــّد هذا النفط أحقادا!