أطلق رئيس الجمهورية ميشال عون، فعلياً، أزمة نظام عبر الاعتراف على الملأ، ولو من خلال بيان مقتضب صادر عن مكتبه الإعلامي، بالإرباك الذي يعاني منه في تحمّل مسؤولياته الدستورية وتشكيل الفريق الحكومي الذي اقترحه عليه رئيس الوزراء المكلّف سعد الحريري.
ليس الأخير مَن يجب تحميله مسؤولية التعطيل، لأنه ضحية ابتزاز بكل ما للكلمة من معنى. ففي الوقت الذي اعتقدنا فيه أن الحكومة التي يحتاج إليها لبنان بصورة ملحّة، سوف تبصر وأخيراً النور، فرضَ المرشد الأعلى للجمهورية اللبنانية إملاءاته التي لا رجوع عنها (؟؟) عبر إرغام الحريري على إسناد حقيبة وزارية إلى أحد أعضاء “كتيبة الستة“، أي الشخصيات السنّية الست السيئة الذكر، الراضخة والتي يمكن التحكم بها وقولبتها كما العجينة، والذين تحولوا فجأةً كتلة برلمانية معارضة لسعد الحريري وفق ما هو متوقَّع.
لكن، ما هي قبعة الساحر التي سيُخرجون منها الحقيبة الوزارية الشهيرة التي يطالب بها المرشد الأعلى؟ هل هي من حصة رئيس الجمهورية أو من حصة رئيس الوزراء؟ نستخلص من ذلك كله أنه لم يجد أحدٌ أنه من المهين أو المذل أن يقبل وزيرٌ عتيد بدور تابعٍ حيث يكون مجرد قطعة صغيرة في حصة هذا الزعيم القبلي أو ذاك.
ليس كافياً على ما يبدو تصنيف الأشخاص بين سنّي وشيعي وماروني، إلخ. في بلد الطوائف والمذاهب التي يُثير مجرد ذكرها شعوراً بالغثيان لدى أصحاب المنطق. إذا كانت الحقيبة الوزارية المسنَدة إلى كتيبة الستة “سنّية حريرية“، فسوف يتجرّع رئيس الوزراء بذلك كأس الإذلال حتى الثمالة، والتي يفرضون عليه ابتلاعها منذ سنوات طويلة، الأمر الذي من شأنه أن يثير بهجة عارمة لدى قتلة والده وحلفائهم الأقليين الممتلئين صخباً وضجيجاً.
في المقابل، إذا كانت الحقيبة نفسها “سنّية – عونية“، سوف يخسر رئيس الجمهورية، بطبيعة الحال، حق الفيتو الذي يمنحه إياه الرقم السحري، 11 وزيراً من أصل 30 (أي الثلث زائد واحد)، والذي هو بمثابة سيف دموقليس الذي يحمله الرئيس “القوي” و“المسيحي” مصلتاً فوق رؤوس جميع خصومه، كما كان يحصل سابقاً قبل اتفاق الطائف الممقوت جداً من أزلام “الملاليوطهران” وأتباعهم. إذاً، لقد ألقى المرشد الأعلى لـ“الجمهورية الإسلامية اللبنانية” العتيدة، حسن نصرالله، بحجر كبير في مستنقع الضفادع الذي هي عليه السياسة اللبنانية. وكي لا يظهر في صورة المعطِّل الوحيد لتشكيل الحكومة، التفّ حول المشكلة عبر جعلها تبدو وكأنها شجار مبتذل بين رئيس جمهورية مسيحي ماروني ورئيس وزراء مسلم سنّي.
ينساق اللبنانيون، منذ عقود طويلة، وراء الوقوع بسذاجة في أفخاخ مثل هذه المناورات التي أمعن الأسد الأب والابن في استخدامها في حقبة الاحتلال السوري، والتي لا تزال تثبت فاعليتها، نظراً إلى أن مفهوم الهوية المواطنية يأتي في المرتبة الثانية بالنسبة إلى شريحة كبيرة من اللبنانيين الذين هم ضحايا حالة مرَضية هلوسية تجعل الشخص مسكوناً بهاجس مرض الهوية. يبلغ الانصهار في المجموعة الطائفية كما القطيع، أبعاداً مقلقة جداً لم تعرفها البلاد منذ الحقبة العثمانية.
باختصار، أعلن رئيس الجمهورية، الذي لا يفهم سبب عدم امتثال سعد الحريري للصيغة التي تُفرَض عليه تحت الإكراه، في بيان مقتضب صادر عن مكتبه الإعلامي: “إذا ما استمر تعثّر تشكيل هذه الحكومة، فمن الطبيعي أن يضع فخامة الرئيس هذا الأمر في عهدة مجلس النواب ليُبنى على الشيء مقتضاه (…)”.
نخال أنفسنا في حلم. لقد شهدنا على مختلف الانتهاكات للدستور في لبنان، إنما لم يسبق أن أعلن رئيس للجمهورية على الملأ عن عجزه عن، أو رفضه لممارسة صلاحياته الدستورية. لم يكن أحد ليجرؤ على التخيل بأنه سيأتي يومٌ يتصرف فيه صاحب المنصب الأعلى في البلاد، الشخص الوحيد الذي يُقسم اليمين على الدستور، رئيس السلطة التنفيذية الذي تعهّد أمام ممثّلي الأمة بالدفاع عن دستور الشعب اللبناني، ولو كلّفه ذلك حياته – يتصرف إذاً وكأن الدستور غير موجود، ويبحث عن شرعية أخرى في التسويات السياسية لا في احترام الآلية الدستورية التي يبقى القيّم الأول عليها.
الرئيس عون منزعج من التعثّر الحكومي؟ لماذا؟ لكنه يمتلك السلطة لتشكيل فريق حكومي على الفور. يكفي أن يُوقّع على مرسوم التعيين. لماذا لا يبادر إلى القيام بذلك انطلاقاً من الدور المنوط به والذي يفرض عليه أن يكون حَكماً أعلى مترفِّعاً عن المعمعة؟ هل السبب أنه يخشى تطبيق الدستور وممارسة صلاحياته الرئاسية؟ هل يمكن أن يثير ذلك غضب جهةٍ معيّنة؟ ومَن هي هذه الجهة؟
إذا كان الحال هكذا، يحق لنا أن نطرح السؤال عما إذا كانت تهبّ عاصفةٌ هوجاء في أروقة قصر بعبدا حاملةً معها أزمة نظامٍ يمكن أن تدفع بنا جميعاً نحو الهاوية.
acourban@gmail.com
- د. أنطوان قربان طبيب، وأستاذ في الجامعة اليسوعية في بيروت