لبنان لا يريد الحرب
Le Liban ne veut pas la guerre
Lebanon does not want war

الأونروا ما بين سوق المصائر والعقارات..!!

0

بصراحة، لم أصدّق عيني عندما وقعت على الخبر، الذي نشرته على الإنترنت وكالة أنباء محلية، قليلة المهنية، وتتسم علاقتها مع قواعد اللغة العربية، والإنشاء، بكثير من الأريحية. أما الخبر فمفاده أن مركز سيمون فيزنتال الأميركي نشر قائمة تضم أسماء أشخاص وهيئات بوصفهم أبرز المعادين للسامية في 2018، وأن الأونروا احتلت المركز الخامس في تلك القائمة.

المركز المذكور أميركي، وينشط كمنظمة تُعنى بحقوق الإنسان، مع تركيز خاص على مسألة العداء للسامية. وقد نشأ تكريماً لسيمون فيزنتال، النمساوي الناجي من الهولوكوست، الذي كرّس حياته لملاحقة العداء للسامية وتجلياتها في العالم.

لم تكن سيرة فيزنتال بلا عثرات، فقد اصطدم بالمستشار النمساوي برونو كرايسكي، وكذلك بكورت فالدهايم، الأمين العام السابق للأمم المتحدة، ورئيس النمسا لاحقاً. ونجمت عن الاصطدام شكوك بشأن ماضيه وصدقيته. وهذا لا يعنينا الآن. كل ما في الأمر أن مركز روزنتال يحظى، في الوقت الحاضر بمكانة ونفوذ في أوروبا والولايات المتحدة، وبعناية خاصة في إسرائيل بطبيعة الحال.

والمهم، أنني تأكدت من صحة الخبر بعد الاطلاع على تقرير المركز نفسه. وكان من الطبيعي، تماماً، الربط بين تصنيف الأونروا كهيئة معادية للسامية، وهجوم الرئيس الأميركي ترامب على الوكالة، وعلى قضية اللاجئين الفلسطينيين. والخلاصة السياسية أن ثمة محاولة، متعددة الأطراف والجبهات، لشطب وتصفية قضية اللاجئين الفلسطينيين.

وإذا كان من الممكن الهجوم على الأونروا من جانب ترامب في صيغة قرارات ومواقف سياسية، فإن دعم تلك المواقف والقرارات يستدعي تجريد الوكالة المعنية من قيمتها الأخلاقية، وتحويلها إلى مُشجّع ومُحرّض على الإرهاب. وهذا ما تطوّع للقيام به مركز فيزنتال بدعوى أن الأونروا تنفق وتدير المدارس في غزة، الواقعة تحت سلطة حماس، وأن المواد الدراسية معادية للسامية.

والواقع أن ثمة ما يشبه خفّة اليد هنا. فاختزال الأونروا في غزة، أو حماس، يبدو مبالغة مجافية للحقيقة في عالم يحتكم إلى المنطق، أما في عالم ترامب الذي يشتغل في السياسة بعقل تاجر العقارات، وفي عالم ما بعد الحقيقة، الذي نعيشه اليوم، فكل شيء مُباح، وكل شيء ممكن، وليذهب المنطق إلى الجحيم.

ومع ذلك، ثمة مشكلة هنا أبعد من مدارك ترامب، وهي متواضعة، ومن براعة بنيامين نتانياهو، الذي حاول، بخفة يد مدهشة، وضع مسؤولية الهولوكوست على عاتق الحاج أمين الحسيني، وبالتالي على عاتق الفلسطينيين، فتصدى له مؤرخون إسرائيليون، ويهود في بلدان أخرى، لا يقلّون عنه محبة لإسرائيل، ولكنهم أوسع اطلاعاً، وأبعد نظراً منه. فإعفاء النازية الألمانية، والقوميات الأوروبية المتطرّفة من مسؤولية الهولوكوست ينسف كل المرافعات، بما فيها، وفي قلبها، الصهيونية، بشأن تاريخ اليهود، والمسألة اليهودية، والعداء للسامية، على مدار القرون الثلاثة الماضية.

والمشكلة أن الاستثمار السياسي في مسألة العداء للسامية، وتحويل كل نقد لإسرائيل إلى نوع من العداء للسامية، سيؤدي في نهاية المطاف إلى تفريغ فكرة، ودلالة، وقيمة، الهولوكوست في الضمير الإنساني، من الجدوى والمعنى.

ولست، هنا، بصدد الكلام عن تطوّر مكان ومكانة الهولوكوست في الخطاب الإسرائيلي، وعلاقة هذا كله بصعود اليمين القومي ـ الديني في إسرائيل، ولا عن أمركة الصهيونية التقليدية، بل التذكير بحقائق من نوع أن تحويل ذكرى وذاكرة الهولوكوست إلى ورقة تين لسياسة إسرائيل كدولة، وعلاقتها بالفلسطينيين والعرب، وبقية شعوب الأرض، يعني تسييس الذكرى والذاكرة، في مغامرات، ومضاربات، ومناورات، قصيرة النظر، على حساب الدلالة الأخلاقية، والعبرة التاريخية. فكل زيادة في كفة تعني النقصان في كفة أخرى.

¨حينما كان اللاجئون.. يهوداً فرّوا من ألمانيا

بمعنى آخر، كان تاريخ العداء للسامية مرافعة الجلاّد المُقدّس في خطاب الصهيونية العمالية، ولكنّه تحوّل مع صعود صهيونية اليمين القومي ـ الديني في إسرائيل، وأوساط اليهود الأميركيين، إلى مرافعة الجلاّد المُسيّس، الذي يمكن أن يغض الطرف عن حقيقة أن بين حلفاء ترامب وناخبيه أعداء للسامية لا يقلّون عداء لليهود، كيهود، من الأعداء التقليديين، الذين أنجبتهم النازية والقوميات الأوروبية المتطرّفة. والأسوأ من هذا وذاك أنه لا يغض الطرف وحسب، بل ولا يتردد في التحالف معهم، أيضاً.

والأسوأ من هذا وذاك، أن اليهود، والنساء، والأقليات عموماً، كانوا دائماً على رأس قائمة الضحايا في المنعطفات والأزمات التاريخية الحادة، وأن نجاتهم مشروطة بسيادة قيم الديمقراطية، والمساواة، وحقوق الإنسان، والتعايش السلمي بين الدول، وأن في مجرّد صعود ترامب، والقوميات والشعبويات الأوروبية المتطرفة والبيضاء ما ينبغي أن يقرع أكثر من جرس للإنذار.

ثمة أجراس كثيرة تُقرع الآن. وبما أن أحداً لا يملك سوى أن يكون ابناً لزمانه ومكانه، فلا أرى سوى أن مصير الفلسطينيين شعباً، وقضية، رهينة بين أرجل الترامبات والشعبويات والقوميات المتطرفة والبيضاء، والآسيويات البربرية، بما فيها الإسرائيلية والعربية، ولا ينبغي لاحتمال كهذا أن يكون خبراً ساراً لليهود الإسرائيليين، ولليهود في كل مكان آخر، ففي حال نجاح هذا السيناريو الأسود لن يكون مصير اليهود أفضل. ففي زمن قد يطول أو يقصر، لا استبعد أن يقول يهودي ما، في مكان ما: أُكلت يوم أُكل الثور الأبيض.

أما الطريقة المُثلى لتفادي هذا كله، فلا تحققها خفّة اليد، ولا شطارة نتانياهو وفيزنتال، بل العودة إلى القناعات والقيم، التي استخلصها بنو البشر من التاريخ الدامي للكولونيالية، والحربين الأولى والثانية، والحرب الباردة، وتحويل تلك القيم إلى حَكمٍ في العلاقة بين اليهود الإسرائيليين والفلسطينيين، وبين هؤلاء وأولئك وبقية العالم.

فخفّة اليد مفيدة في سوق العقارات، وكارثية النتائج في سوق المصائر.

khaderhas1@hotmail.com

Subscribe
Notify of
guest

0 Comments
Inline Feedbacks
View all comments
Share.