هي ابنته في براءتها وشقاوتها وحيويتها وحتى دلعها، هي أمه في حنانها اللامحدود وعطائها بلا مقابل، وهي عشيقته بأنوثتها الطاغية وجسدها الرشيق ومشيتها الراقصة المثيرة! تذكّره بآلهة الجمال عند قدماء الإغريق، أو بإحدى ملكات مصر الفرعونية وقد خرجت لتوها من البحيرة المقدسة أمام معبد الكرنك بمدينة الأقصر تجفف شعرها ووجهها الجميل الذي يجمع في تحد صارخ بين طهارة العشق الصوفي وإثم الرغبة المحرمة الأزلية.
نظرت إليه بتركيز وهيام وجرأة بهاتين العينين القادمتين من بلاد الأندلس بعد مرورهما بجبال الأوراس، وحاول أن يملأ عينيه منهما مرة أخرى، وخطفت منه البصر والبصيرة واللب والفؤاد، وقال ساعتها: “يا ويلتي لقد انتهيت وقضي الأمر”.
هل من المعقول أن يحدث هذا وهو في طريقه بخطى ثابتة وحثيثة إلى خريف العمر، ولماذا هو بالذات وكان قد نسى العشق، وحتى عندما كان يراه على الشاشة الكبيرة أو الصغيرة يتأثر ويتنهد قائلا:” هييه … كانت أيام”؟ فهل، حقاً، ما حدث له في تلك الليلة؟ أكان حقيقة أم حلما أم أوهام أفلام؟! وكان يردد بينه وبين نفسه في السنوات الأخيرة “ولقد برئت من الهوى ومن الجنون”، وابتسم ابتسامة عريضة وبنشوة أيضا عندما تذكر الكاتب الأيرلندي (برنارد شو) حين قال قولته المشهورة: “إن الحكمة والخبرة تأتي إليك متأخرة دائما، كمن يهديك مشطا لتمشيط شعرك بعد أن تكون قد فقدت معظمه”!!
وقد دار بينهما الحوار التالي في نهاية تلك الليلة التي لا ولن تنسى من ذاكرته، حتى لو أصيب بمرض خرف الشيخوخة:
– سأفتقدك كثيرا
– ستخلف ورائك فراغا لن يملأه أحد
– ساراك في القريب العاجل
– سأنتظر بقليل من الصبر وكثير من الشوق
(يا إلهي متى سمع هذا الحوار من قبل؟ حاول أن يميز بين أغاني الحب الجميلة القديمة التي تندفع إليه من كل مكان وبأكثر من لغة وفي وقت واحد لتعلن فرحتها لخروجها من القمقم بعد تلك اللمسة الساحرة من يدها)
– لقد منحتني أجمل ليلة في حياتي
– وأنا لم أشعر بمثل هذا الشعور من أيام المراهقة
– لست أدري كيف أرد لك كل ما تفعله من أجلي؟
– إنما أنا أسدد ديني
(ويمضي الحوار العذب ويجري كمياه النيل وكأنه بدأ منذ بدء الحياة! لا يصدق ما يحدث، وبينما تمضي هي بمشاعرها وعفويتها وبراءتها، يصبح هو أسيرا لمجموعة هائلة من الأصفاد تحول بينه وبين لحظة النشوة الشاعرية الكاملة).
– لماذا تتهرب مني؟
– أنا أشفق عليك
– أنا لا أريد شفقة منك، ولكني أريد حبك
– حبك في نفسي
– ولكني أريده لنفسي
– لا أستطيع
– تستطيع ولكنك تخشى المحاولة والمواجهة
(لمست أصل الداء! منذ أن كان طفلا يلعب في الحارة كان أضعف من المواجهة دائما! وفي المرات القليلة التي حاول أن يواجه الآخرين كان يلقى ما يكره، وكان يتألم للهزيمة النفسية أكثر مما كان بتألم للهزيمة الجسدية)
– لا بد أن نقضي الأسبوع القادم معا
– أنت تعرفين ما ورائي من مسؤوليات
– وأنا أعتبر نفسي من أكبر مسؤولياتك
– وأنا كذلك
– هيا أذاً تولى مسؤولياتك
– أنت تحملينني أكثر مما أطيق
– دائما كنت تردد بأن التدريب هو ما ينقصنا!
– يعني ماذا تقترحين؟
– أن نستمر في المحاولة
– وإن فشلنا؟
– نكون قد كسبنا شرف المحاولة ونتجنب الشعور بالذنب نتيجة عدم المحاولة، بالإضافة إلى استمتاعنا بذكريات عطرة سوف تصمد ضد الزمن!
(وأمسكت كلتا يديه بشده واحتضنها بشدة أكبر قبل أن يفترقا، وعندها أخذ يدندن أغنية أم كلثوم (ألف ليلة): “بكل العمر… هو العمر فيه كم ليلة… زي الليلة… زي الليلة”)
رائعة ما شاء الله