بعد وقت، قد يطول أو يقصر، لن يجد المؤرخون صعوبة في التمثيل لفصول الإمبراطورية الأميركية الختامية، في الشرق الأوسط، بمشاهد من زيارتين لدونالد ترامب وجو بايدن على التوالي. أكتب وفي الذهن ما تنطوي عليه عبارة كهذه من قابلية عالية لسوء الفهم.
الإمبراطوريات لا تنتهي بكبسة زر كما ينتهي فيلم على الشاشة. فالإمبراطورية البريطانية (التي لم تغب عن ممتلكاتها الشمس في وقت ما) وصلت إلى منحنى الانحدار، من ناحية عملية، مع نهاية الحرب العالمية الثانية، رغم وجودها في معسكر المنتصرين.
وقد تظاهرت بريطانيا بعد هذا التاريخ بدور القوّة العظمى على مدار عقد كامل من الزمان، بل وغامرت بشن حرب حققت فيها، مع شركائها، نتائج عسكرية ملموسة. ومع ذلك، لا يختلف مؤرخان، اليوم، ومنذ عقود، على حقيقة أن الإمبراطورية البريطانية انتهت في حرب السويس 1956.
وهذا يصدق، أيضاً، على الإمبراطورية الفرنسية، شريكة البريطانيين في حرب السويس، التي كانت ضمن معسكر المنتصرين في الحرب العالمية الثانية، ولكنها وصلت إلى طريق مسدودة مع نهاية تلك الحرب، وقاومت ومانعت، على مدار عقدين من القتال التراجعي، قبل التسليم بالمصير المحتوم.
لذا، الكلام عن نهاية الإمبراطورية الأميركية لا يعني أننا لن نرى أميركيين في الشرق الأوسط، وأن هؤلاء لن يتصرّفوا كقوّة عظمى مهيمنة من وقت إلى آخر، بل يعني أن النفوذ الذي كان لهم في وقت ما لم يعد كما كان، وأن إمكانية التمرّد عليهم أصبحت أقل ضرراً مما كانت عليه في زمن مضى، وأن ولاءات وأسعار الوكلاء المحليين لم تبق على حالها.
وإلى هذا كله نُضيف: لا ينحصر تقويض الدعائم المادية والمعنوية للهيمنة في الحركات التحررية والاستقلالية، بالضرورة، وفي كل الأحوال، بل وتسهم في التقويض، وربما بالقسط الأكبر أحياناً، قوى صاعدة تسعى للهيمنة من الإقليم وخارجه. فتقويض الدعائم المادية والمعنوية للهيمنة البريطانية والفرنسية في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، نجم عن ضغوط ثلاثة تيارات قوية لم تنبع من مصدر واحد، ولا صبّت في المصب نفسه: حركة القومية العربية، وعنوانها الرئيس الناصرية، والاتحاد السوفياتي، والولايات المتحدة.
ويكفي أن نحتفظ في الذهن، الآن، بحقيقة أن الأميركيين أسهموا في تقويض الإمبراطوريتين الفرنسية والبريطانية، في سياق التنافس على الموارد، والأسواق، ومناطق النفوذ، وفي ترجمة عملية متصاعدة لما أسفرت عنه نتائج الحرب العالمية الثانية من توازنات ومصالح استراتيجية جديدة.
والواقع أن التذكير بدور الأميركيين في تقويض الإمبراطوريتين الفرنسية والبريطانية يجد ما يبرره في التساؤل عمّن يسعى إلى تقويض إمبراطوريتهم الشرق أوسطية في الوقت الحاضر. هذا سؤال الأسئلة الآن. لن يجد الكثير من المهتمين صعوبة في إضافة قوى كإيران، وتركيا، وروسيا والصين (والهند، أحياناً) إلى قائمة المنافسين وأصحاب المشاريع الإمبراطورية.
ومع ذلك، الغائب الحاضر في قائمة كهذه هو إسرائيل. نعم، القوّة الإسرائيلية الصاعدة تُسهم في تقويض دعائم الهيمنة الأميركية، في المشرق العربي، على نحو خاص، لأنها تسعى للحلول محلها. وبناء عليه، بدلاً من الكلام الفاضي، الذي سمعناه عن زيارة بادين، وما تحقق، ولم يتحقق، فمن الأفضل تحليلها على خلفية مشروع الهيمنة الإسرائيلي، ومضامينه التنافسية العالية.
ثمة الكثير مما يُقال في أمر كهذا (والقليل من المساحة المُتاحة). وعلى أمل المزيد من التفصيل في معالجات لاحقة، نعود إلى زيارتين رئاسيتين تمثلان وجهين لعملة واحدة، فيها من العلامات ما يكفي للتدليل على نضوب الوقود في محرّك الإمبراطورية.
الأولى لشخص قام بأول محاولة انقلابية في التاريخ الأميركي، والأهم أنه قلب تصوّرات تحظى بالقبول في أربعة أركان الأرض عن لعبة السياسة والحكم. فالسائد من التصوّرات والتقاليد يفرض على مَنْ في سدة الحكم التظاهر، ولو كذباً، بالانضباط الأخلاقي، والتحلي بالقيم، والحكمة، حتى ولو كان لصاً وجاهلاً، وعديم الأخلاق. وفي حالة ترامب جرى تطبيع قلة الأدب، واللصوصية ووضاعة الأخلاق، وانحطاط القيم، لا بوصفها مما يمكن غض النظر عنه، وحسب، بل وبوصفها دليل عبقرية استثنائية، أيضا.
لم يكن صعود ترامب ممكناً إلا في حقل سياسي تسلّع وتعفّن. ولم تكن سياساته لتحظى بالقبول لو لم ير فيها أنصاره وناخبوه، وهم بالملايين، محاولة لإخراج الإمبراطورية من أزمتها (من هنا جاء شعار Make America Great Again). وبه نستعيد مشاهد بصرية كثيرة، منها رقصة السيف مع مضيفيه السعوديين، وما تحتمل الصورة، بوصفها نصاً بصرياً من تأويل، وما تنطوي عليه من علامات. فلغة الجسد الترامبي في الصورة، وما يحيطه به من أجساد، منجم للباحث في التاريخ والمفارقات وعلم العلامات.
على أي حال، ننتقل من رقصة السيف إلى التلامس بالقبضات في الزيارة الرئاسية الثانية مع المضيفين أنفسهم. لا تحدث أشياء من نوع طريقة التلامس الجسدي بالصدفة، مثلها مثل التصريحات، والبيانات، وما يُقال ولا يُقال في المؤتمرات الصحافية، بل يتم نقاشها والتفاوض بشأنها بين فريقين يمثلان الضيوف والمضيفين، وقد يستغرق الأمر وقتاً طويلاً، ويستدعي تنازلات متبادلة. (مثلاً، تعلّم كلينتون طريقة خاصة لمصافحة عرفات للحيلولة دون تبادل القبلات، هواية عرفات المفضّلة. لم يُخبروا الفلسطينيين طبعاً).
على أي حال نتكلّم في معالجة لاحقة عن بايدن، الذي تنقصه الكارزيما (ولا يتمكن من ضبط دموعه في حالات كثيرة) بوصفه وجهاً آخر من وجوه الإمبراطورية في خواتيمها، وكيف عثر مستشاروه على صيغة رمزية هي التلامس بالقبضات لتحقيق التوازن بين وعد سابق بالامتناع عن المصافحة، وواقع لاحق جعلها شراً لا بد منه. فاصل ونواصل، فثمة الكثير.
khaderhas1@hotmail.com