لم يكد اللبناني يستوعب امتعاضه من هفوات “نواب التغيير”، من حمل على الاكتاف بحجة التقليد!! بحيث احترنا: تغيير أم تقليد؟ أو تكملة هوايات ما قبل دخول المجلس من اهتمام بالفقمات أو بأعقاب السجائر، ناهيك عن الانجذاب لسحر رئيس المجلس وألاعيبه، وغير ذلك.
لكن لا بأس، جدد على الكار، يحتاجون إلى مزيد من الوقت لـ”رَكلجة” أدائهم، وبلورة مواقفهم، على ما قام به العشرة الذين رشحوا نواف سلام لرئاسة الحكومة. بانتظار المزيد من بلورة مواقف سيادية واضحة وعاجلة وترك تسلية الامتناع.
ربما سيتطلب هذا منهم اعادة النظر بمجموع تكتلهم، فليس العدد هو المهم، ويجدر بهم تحديد بوصلتهم في المواقف المصيرية أي المواقف السيادية وخصوصاً موضوع السلاح، ومن لا يتفق معهم يمكنه الالتحاق والانضمام الى من يشبهه في المواقف من النواب الجدد الذين اعتُبروا خطأ “تغيريين”.
لكن الصفعة جاءتنا ممن يحمل لواء: “الدولة وليس الدويلة”، و”نحنا بدنا.. ونحنا فينا”، إلى ما هنالك.. والذي وعدنا بالمن والسلوى إذا حصل على أكبر كتلة من النواب وتسنى له ذلك، بعد غض الطرف عن التحالف مع من يحمل برنامجه أو المساعدة على اختيار أصوات مستقلة خارج تكتله، إلى رفض التحالف مع بعض القوى السيادية كفارس سعيد مثلاً!! فكانت مفاجأة زعيم “الجمهورية القوية” الامتناع عن ترشيح اسم لرئاسة الحكومة!!
وهذا الأداء يتكرر عند الاستحقاقات الكبرى، ولن أذكر سوى المميتة منها. من انتخاب رئيس الجمهورية الذي عرفوا مواقفه المسبقة وانتخبوه، إلى “قانون الانتخاب”، إلى الامتناع عن التصويت في الجنوب؛ إلى عدم القدرة على إحداث أي تغيير في المجلس الجديد، وعندما أتت الفرصة لإضعاف المنظومة، بعد عجزهم عن منع هيمنتها على المجلس، كان الامتناع عن تسمية مرشح لرئاسة الحكومة. ما يعني عملياً تغطية المنظومة والسماح لحزب الله بتكريس هيمنته من جديد، بالرغم من الشعارات الفضفاضة!!
بمعنى آخر، عند كل استحقاق يتطلب موقفا جدياً، يتعدى الخطابة، لمواجهة حزب الله تختفي القوات اللبنانية وتتخذ أما موقفاً نتيجته محاباة المنظومة وإما موقفاً رمادياً لا يضعف قبضتها!! لم يعجبكم سلام؟ رشحوا حليفكم أشرف ريفي؟
يعدد الناشطون مواقف القوات المتناقضة: المطالبة باستقالة إميل لحود ورفض المطالبة باستقالة ميشال عون، طرح اسم نواف سلام منذ العام 2019 ثم رفضه الآن “لعدم قيامه بمبادرة تؤكد استعداده لتحمل المسؤولية وتجاهله التواصل مع الأفرقاء الذين دأبوا على ترشيحه، أو لعدم معرفة برنامجه”!!!
ما هذه السياسة؟ مزاجية أم تبعية للخارج؟
نواف سلام قاضٍ محترم ولا يطلب منه تسويق نفسه عند السياسيين أو تملقهم. عندما نكون أمام خسارة لبنان لا نطلب تبخيرنا من أحد، بل نقوم بواجبنا السياسي. هذا مع العلم أن نواف سلام لم يذكر سلاح حزب الله مرة واحدة، وبرنامجه لا يخرج عن كونه اقتصاديا وتكنوقراطياً إصلاحياً ويمكن “ما يشيل الزير من البير”، مع ذلك عندما يمكنني اختيار اسم معقول من خارج المنظومة لإضعافها، نختاره دون تردد.
ولأن الامتناع ليس سياسة صالحة للتغيير والمواجهة، سأكتفي بإظهار “بروفيل” من يمتنع عن التصويت، لأنه من المثير للاستغراب، أن من انتخبوا لتوهم لدخول الندوة النيابية لتصحيح المسار ويحملون آمال المواطنين، في أكثر الأوقات المصيرية حرجاً ودقة، يكون أول نشاطهم الامتناع عن اختيار مرشح لرئاسة الحكومة بـ46 صوتاً!!
لماذا، إذاً، على المواطن العادي فاقد الثقة بالسياسيين أجمعين، أن يشارك بالعملية الانتخابية ما دام من يختارهم يمتنعون عن اتخاذ مواقف؟
يصدف أن الرأي العام الفرنسي ينشغل أيضاً بمسألة الامتناع عن التصويت، وكانت مناسبة للتعريف على البروفيل السوسيولوجي للممتنعين عن المشاركة في الانتخابات. وأعتقد انها تنطبق بنسبة كبيرة على الممتنعين عموماً في سائر المجتمعات.
هناك عدد كبير من الممتنعين عن التصويت يشككون تمامًا فيما يمكن أن يتوقعوه منها. ويتميزون بالانسحاب من السياسة وببعض اللامبالاة وبمستوى تعليمي منخفض؛ وأكثرهم بين الفئات التي تواجه صعوبة في الاندماج الاجتماعي، مثلاً كالنازحين من المناطق الريفية إلى المناطق الحضرية أو الضواحي حيث السيطرة الاجتماعية أضعف، والمهاجرين واللاجئين. كما يلعب دوراً ازدياد عدد الأشخاص الذين يعيشون “بمفردهم” أو في أسر وحيدة الوالد بسبب الطلاق أو الانفصال أو المواليد خارج نطاق الزواج؛ إضافة إلى انخفاض مشاركتهم في الممارسات الدينية أو النقابية أو العضوية الحزبية.
تشعر هذه الشرائح من الجمهور بعدم الكفاءة وبصعوبة فهم التقلبات والمنعطفات للنشاط السياسي التي لا يصلهم منها سوى القليل. كما يجدون صعوبة في “إيجاد طريقهم”، أي في الاختيار بين الأحزاب أو المرشحين في الانتخابات.
تنتمي هذه الجماهير بشكل أساسي إلى الطبقة العاملة وعدد كبير من النساء. غالبًا ما تكون ظروفهم المعيشية هشة وصعبة وتجعلهم الصعوبات اليومية أكثر اقتناعا بأنه لا يوجد الكثير لتوقعه من السياسيين، لأنهم يعتقدون أنهم “يتحدثون” أكثر بكثير مما “يفعلون”، وأعطوا “وعود” لم يفوا بها أبدًا.
هؤلاء الغائبون الدائمون عن المشهد الانتخابي لا يتعرفون على أنفسهم في اللعبة السياسية، وهم قبل كل شيء، أكثر عرضة من الآخرين للرفض والتحدي، لأنهم إذا أعلنوا عن أنفسهم سيقفون مع التغيير الكامل للمجتمع بأعداد أكبر من الآخرين، من منطق رفض النظام الاجتماعي وكذلك النظام السياسي.
هذا “البروفيل” برسم نوابنا الذين يمتنعون عن اتخاذ مواقف. وهو يتعارض جذرياً مع المكانة والدور والمهمة الذين خاضوا على أساسها الانتخابات واختيروا للقيام بنشاط سياسي وللإنجاز وليس الهروب والتفرج.
إن الامتناع عن الاختيار هو مساهمة نشطة لإبقاء الوضع على ما هو عليه بالرغم من ادعاءات المواجهة.
هنا اذكّر بأغنية الثورة “اعطوني فرصة”، التي تقول بلسان المسؤول: الله يوفقكن ما عاد (لنقل) اخذلكم.. أعطوني فرصة وبلا جرصة!!
طبعاً لا تزال الفرص لتصحيح المسار أمامنا كثيرة، وأولها وضوح مواقف القوات اللبنانية والتخلص من المزاجية والنرجسية والانسحاب من أي استحقاق. ومواقف شجاعة من نواب التغيير كإصدار بيان مثلاً يحمل موقفهم من حكم المحكمة الدولية، وليس الاكتفاء بعرّاضات تدعم الحزب تورية في الناقورة. فكما يحق لنا المطالبة بالخط 29 يحق لنا ضبط حدودنا الشرقية ومطارنا والمرفأ امام التهريب!!
إن شيطنة الجميع تحت شعار “كلن يعني كلن” يجعل منهم قضاة حكموا على الجميع دون محاكمة، فبأي سلطة يحلون محل القضاء في تعيين الفاسدين!! بينما يتجالسون ويتعاونون، والبعض ينتخب أو يتفهم أو يخاف، فاسدين ومطلوبين للعدالة الدولية واللبنانية؟ وليخبرونا عن موقفهم من استقبال اسماعيل هنية وسلاح المخيمات!!!
ولكي لا نظلم أحدا، يجدر بنوابنا التغيريين والسياديين، فضح كل من يمارس عكس ما يعلن، والضغط لجعل التصويت علني.
يحق للمواطن أن يعرف مواقف ممثليه بدقة، وإلا كيف سيراقبهم ويحاسبهم؟
ملاحظة أخيرة للقوات: حزب الله وجمهوره يشيطنكم ولو أضأتم أصابعكم العشرة. فاقتضى التوضيح.
monafayad@hotmail.com