في خضم الحرب الدائرة في أوكرانيا والصراع الغربي ــ الروسي على النفوذ، لم تلق الانتخابات الأخيرة في أستراليا اهتماما يوازي مكانة هذا البلد الشاسع في موازين القوة ولاسيما لجهة التحالفات الاستراتيجية الجديدة لمحاصرة النفوذ الصيني المتصاعد.
تمخضت هذه الانتخابات عن خسارة حزب المحافظين اليميني الحاكم بقيادة سكوت موريسون لصالح منافسه أنتوني ألبانيز زعيم حزب العمال اليساري المعارض، الذي ظل بعيدا عن السلطة لنحو عقد من الزمن. وبهذه النتيجة ــ رغم أن الحزب المنتصر لم يحقق فوزا ساحقا لتشكيل حكومة أغلبية برلمانية مريحة ــ وجه الاستراليون لطمة إلى المحافظين وزعيمهم موريسون ذي الشعبية المتدنية بسبب لجوئه إلى قرارات صعبة ومؤلمة تجلت في طريقة تعامله مع جائحة كورونا وإلغاء صفقة الغواصات مع فرنسا رضوحا لضغوط امريكية بريطانية. وبالتالي باتت استراليا اليوم في عهد حكومة أقلية يدعمها حزب الخضر والمستقلون لأول مرة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية.
لكن ماذا عن السياسات التي ستتبناها الحكومة الجديدة، ولاسيما تلك المتعلقة بتعاون كانبرا مع واشنطن وطوكيو ونيودلهي للجم بكين وسياساتها التوسعية، خصوصا وأن حكومة موريسون المهزومة كانت متهمة بإهمال علاقات البلاد مع الدول الصغيرة المحيطة بأستراليا في المحيط الهادي إلى درجة أن بلدا مثل “جزر سليمان” قام بعقد اتفاقيات أمنية مع الصين، ما أثار مخاوف قطاعات من الاستراليين حول احتمال أن تؤدي تلك الاتفاقية إلى بناء قواعد عسكرية صينية بالقرب من مياهمم وترابهم الوطني لأول مرة. كما وأن جزر ساموا حذت مؤخرا حذو جزر سليمان فوقعت اتفاقا سريا مع بكين تحت غطاء التنمية والتعاون.
ومن هنا قيل أن المهمة الأولى لرئيس الحكومة الجديد ستكون إعادة رسم العلاقات الخارجية بطريقة أقوى وأوضح من أجل أمن البلاد وحمايتها من أي تهديد خارجي، ودرء مخاطر الهيمنة الأجنبية على حركة المرور في المحيطين الهادي والهندي. وبالفعل قام وزير الخارجية الاسترالي الجديد “بيني وونغ” وقت كتابة هذا المقال بزيارة جزر فيجي لتأكيد أن بلاده معنية بمشاكل بلدان المحيط الهادي الصغيرة وأنها شريكة لا تفرض شروطا أو أعباء مالية على شركائها كما يفعل الصينيون، ولحث قادتها على “التفكير في المكان الذي تكونون فيه خلال عقد من الصفقات مع الصين” طبقا لتصريحه.
أما داخليا، فالأنظار تتجه إلى إجراءات الحكومة حول قضية تغير المناخ، خصوصا وأنها كانت قضية محورية خلال حملات حزب العمال الإنتخابية، بل يمكن القول أن الأخير لم يفز إلا بسبب الوعود التي قطعها ألبانيز على نفسه بخفض الانبعاثات الكربونية بنسبة 43% بحلول عام 1930 وتصفيرها بحلول عام 2050. وهو أيضا ما شجع حزب الخضر على دخول الإئتلاف الحكومي الحالي، بعدما أعلنت الحكومة الجديدة أنها تخطط لتحديث شبكة الطاقة الأسترالية وإطلاق البنوك الشمسية، مع الاستثمار في مشاريع الفحم الجديدة إذا كانت مجدية بيئيًا واقتصاديًا. هذا علما بأن حكومة موريسون المهزومة قاومت الدعوات العالمية لخفض انبعاثات ثاني أكسيد الكربون بما يتجاوز نسبة 28% من الانبعاث بحلول العام 2030، ودعمت استعمال الفحم الذي تعد صناعته أحد محركات الاقتصاد الأسترالي.
لكن من هو الزعيم الاسترالي الجديد الطامح للبقاء في السلطة طويلا ومسح الصورة الهزيلة التي ظهر بها حزبه في انتخابات عام 2019 بعد أن أمضى ربع قرن ينتظرها على خلاف أسلافه الذين لم ينتظروا أكثر من عقد؟
حصل ألبانيز البالغ من العمر 59 عاما على مقعد برلماني لأول مرة في عام 1996 تزامنا مع تحول حزبه إلى المعارضة. وحينما عاد العمال إلى السلطة ما بين عامي 2007 و 2013 نشبت خلافات حزبية حول القيادة فانبرى ينتقد طرفي الخلاف صراحة. وخلال تلك السنوات أثبت قدرات قيادية مشهودة تجلت في قيادته للبرلمان بحيادية وتعاونه مع الحكومة المحسوبة على خصومه من أجل تمرير عدد كبير من القوانين دون أن تؤثر عليه أيديولوجية حزبه اليساري. وفي هذا السياق ذكر كريغ إيمرسون، وزيرا للتجارة آنذاك، أن الرجل كان له الفضل بصفته رئيسا لمجلس النواب في ضمان استمرار عمل الحكومة ومنع الفوضى.
تقول سيرته الذاتية أنه نجح في تنظيم إضراب متعلق بالإيجارات وهو في الثانية عشرة من عمره إدى إلى وقف عقارات سكنية مملوكة لأمه، وأنه كان أول من إلتحق بالجامعة ضمن أسرته، فدرس الاقتصاد وانخرط أثناء ذلك في النشاطات الطلابية، وأنه ينخذ قراراته ببرغماتية دون الاخلال بمبدأ العدالة الإجتماعية، متأثرا في ذلك بما مر به من صراعات في طفولته. وفي سن الثانية والعشرين أنتخب رئيسا للجنة شباب حزب العمال وعمل موظفا باحثا في ظل حكومة رئيس الوزراء الأسبق بوب هوك الذي يعد الأطول بقاء في السلطة.
شغل ألبانيز منصب وزير في حكومة حزب العمال السابقة برئاسة رئيسي الوزراء كيفن رود وجوليا جيلارد، قبل أن يتولى منصب زعيم حزب العمال بعد خسارة حزبه في انتخابات 2019. وبايجاز فإن رحلته السياسية كانت طويلة وشاقة وبطيئة، بدأت وهو في سن المراهقة بمرافقة والدته وجدته إلى اجتماعات فرع حزب العمال في ولاية نيو سالوث ويلز، واستمرت في سنواته الجامعية قبل أن تثمر عن وظائف قيادية تدريجيا وصولا إلى دخوله البرلمان وترؤوسه للمجلس وتنافسه على قيادة حزب العمال وفوزه بها وتحركه لإضفاء صورة أكثر واقعية على الحزب، بعيدا عن التزمت الايديولوجي والشعارات الطبقية وتخويف أصحاب رؤوس الأموال.
* أستاذ العلاقات الدولية المتخصص في الشأن الآسيوي