“ما خفي حق الا لشدّة ظهوره”
ابن عربي
أخيراً انتصر القضاء في جولته الأولى في لبنان.
لم ترهبه التهديدات العلنية التي حرص وفيق صفا، المسؤول الأمني في حزب الله، على نقلها للقاضي بيطار ونشرها على الملأ. مع أن الحزب يؤكد دائماً ان لا صلة له بالمرفأ. لكن أمام ردة الفعل العارمة التي أثارها هذا التهديد، ارتأت اوساط الحزب تمرير تسريبات تفسر لماذا “اضطر” مسؤولها الأمني للقيام بذلك!! فنقلت الصحف: أن “السبب الرئيسي لزيارة رئيس وحدة التنسيق والارتباط في “حزب الله” وفيق صفا الى العدلية في 19 أيلول، هي معلومات وصلته عن أن المحقق العدلي القاضي طارق البيطار بصدد الادعاء على قيادات صف أول في “حزب الله” وهي كناية عن 3 أسماء من بينها صفا نفسه”.
أليس هو عذر أقبح من ذنب؟ الا يعني ذلك انهم يعتبرون أنفسهم فوق القضاء؟ كما هم فوق لبنان ودستوره وقوانينه!!
منذ عقود ننتظر هذه اللحظة التي يتجرأ فيها قاضٍ، على وضع القانون فوق الجميع. خصوصاً بعد رد محكمة التمييز.
4 قضاة ومئات الضحايا المغتالين والمقتولين غدراً، لا تزال ملفات التحقيق بقضاياهم فارغة.
تهديد القضاء ومحاولة تعطيله ظاهرة عالمية. فبين القضاء والمافيا، حرب دائمة مفتوحة. كحروب المائة عام. لكن لم تنجح مافيا او ميليشيا في العالم كله بلجم القضاء وارهابه كما نجحت في لبنان طوال قرابة الخمسين عاماً.
فمنذ ان اعتُمِد الاغتيال، في لبنان السبعينيات، من قبل أنظمة البعث وخصوصاً السوري، كأداة للتخلص من الاعداء والمنافسين السياسيين للتحكم والسيطرة، لم يكشف القضاء اللبناني عن أي جريمة. اللهم سوى تلك التي الصقتها السلطات الحاكمة بأعدائها، على غرار الحكم على سمير جعجع في مطلع التسعينيات وسجنه.
لا شك ان التحقيق في جريمة المرفأ – اكبر انفجار غير نووي في التاريخ- الذي يتولاه البيطار يعدّ من اخطر التحقيقات لقاضٍ في جرائم المافيا الميليشياوية. لانه لا يهدد فقط المصالح المحلية، بل له امتدادات تطال بعض الدول الاقليمية والدولية ايضا.
وهذا يضع مسؤولية كبرى غير مسبوقة على قاض فرد لا يملك سوى شجاعته التي تتنافس مع نزاهته في خدمة المنصب القضائي الذي يتولاه.
لقد طال انتظار الشعب اللبناني لظهور مثل هذا المثال – البطل. من هنا المسؤولية المزدوجة في حمايته التي تقع على الشعب اللبناني أولاً لتكوين كتلة حرجة ضاغطة للدفاع عن القاضي والقوانين، وأيضاً على المجتمع الدولي الراغب بتخليص لبنان من الجحيم الذي يغرق فيه دون توقف ثانياً.
جميعنا نذكر ملاحم القضاء في العالم مع المافيا. وخصوصاً في ايطاليا حيث يعد القضاء من اخطر المهن، لأنه ملاحق دائما من المافيا التي سبق وان قتلت القاضي الشهير جيوفاني فالكوني في العام 1992 ولا يزال الايطاليون يحيون ذكراه في كل عام. فهو كان السيف المسلط على المافيا التي تمكنت من قتله عندما كان يحقق في منظمات الجريمة المالية وعلاقة السياسيين بها. تم تفجيره على طريق سريع بالرغم من الحماية المشددة التي رافقته عشر سنوات قبل اغتياله. كان يعمل خلالها في قبو مضاد للقاذفات. كان يؤمن بأن الواجب هو القانون الأعلى.
أما القاضية الكولومبية كونسويلو سانشيز، التي تجرأت على إصدار حكم توقيف المجرم المافيوزي الشهير إسكوبار في الثمانينات، فلقد اضطرت الى اللجوء الى الولايات المتحدة وتغيير هويتها لتعيش تحت اسم مستعار هرباً من انتقام المافيا التي هددت حياتها.
البعض يسفّه عمل المحكمة الدولية من اجل لبنان. منهم عن سذاجة وحسن نية، ومنهم عن سوء نية. الذرائع: المحكمة لم تشر الى المحرض، ولم تذكر حزب الله او سوريا، ولم ولن تنفذ الاحكام… ذرائع واهية القصد منها تيئيس اللبنانيين من إمكانية تحقيق العدالة في لبنان. المحكمة الدولية نموذج ارشادي فتحت الطريق وعينت الجهة المسؤولة. التوصل لمحاكمة النازيين وأشباههم، تطلب عشرات السنين. لكنها تحققت في نهاية الأمر.
ترمز المحكمة الدولية وما صدر عنها، الى بدء العد الكسي لزمن “الافلات من العقاب”، المتحكم في المنطقة. تقول ان أوان إنهائه قد حان إنطلاقاً من لبنان، منصة الحريات و”البلد الرسالة” الذي يجب أن يكون بلد إحقاق الحق والمساواة أمام العدالة لتحقيق الأمن الاجتماعي. هدف العدالة الأمن الاجتماعي وليس فقط العدالة المجردة.
ومن هنا يعد تدخل السياسيين عموماً وحزب الله خصوصاً بمجرى العدالة، خرقاً لمبدأ المساواة الأساسي، فيضرب العدالة في صميمها. العدالة، بحسب جون راولز صاحب كتاب “نظرية في العدالة” او العدالة كإنصاف، آخر كلاسيكيات تاريخ الفلسفة السياسيّة والأخلاقيّة، هي التزام فلسفي بالكونية الأخلاقية والقانونية التي تحقق المساواة والكرامة لكل إنسان. إن الترتيبات الاجتماعية البشرية يجب ان تكون مبنية على مبادئ العدالة والتضامن كما على أولوية المساواة. أن الفصل بين العدالة والمساواة، يفقد العدالة قيمتها ويجعل منها مجرد انتقام.
العدالة آتية لاشك، لكن المسؤولية الملقاة على أهل الثورة عظيمة على قدر الجريمة المراد طمسها.
يورد David Brooks في كتابه “الحيوان الاجتماعي”، تجارب تبرهن ان الطفل الرضيع بعمر 6 اشهر لا يحتاج ان نعلّمه التعامل بإنصاف. فهو يعترض بشدة أمام اللاعدالة. نحن كبشر لا أحد يعلمنا ان نتعاطف مع شخص حزين لفقد ابنه، مقابل عدم التعاطف مع شخص حزين لفقد سيارته الميزاراتي…
ان رد فعلنا على مشهد معين يحصل بشكل مباشر ولحظوي. عدد من العلماء يعتبر ان الادراك الاخلاقي قريب من الادراك الجمالي والحسي، وانه ينبثق من نفس المناطق في الدماغ. لنفكر بالذي يحصل عندما نضع في فمنا طعاما جديدا. انتم لا تقررون، انه مقرف. تشعرون بذلك مباشرة. الاحكام الاخلاقية هي من نفس هذه الطبيعة نوعا ما. انها تقييمات حدسية ومباشرة. ومنها القرف والخجل والارتباك او الاحمرار… كلها انعكاسات.
من يفقدها يفقد إنسانيته.
وعلى ما نقل مكرم رباح عن الامام علي:” اذا رأيت الظالم مستمراً في ظلمه فاعرف ان نهايته محتومة. واذا رأيت المظلوم مستمراً في مقاومته فاعرف ان انتصاره محتوم”.
monafayad@hotmail.com