لكنه عام خصّ اللبنانيين بأثقال لا تقارن بالنسبة لباقي سكان الكرة. فلبنان، وبالرغم من الحروب والأهوال التي مرت عليه في السنوات الخمسين الماضية، لم تمرّ عليه أوقات كالتي عاناها في العام الفائت. وشاءت الصدف أن يكون عام إتمام مئويته الأولى. المئوية التي اختتمناها باكتشافنا مع كل يوم مرّ، إننا لم ننتهِ من بناء وطن بعد، فما زلنا قيد التمرين. الازمات تتفاقم والحلول تبدو مستحيلة ما دامت بيد من تسبب بها. نحن عالقون في نفق.
عام 2020 لم يكتف بمتابعة وتيرة الانهيار الاقتصادي ولا بخيبة أمل الثائرين من العنف الذي جوبهوا به ولا يزالون؛ لكن جاءت جائحة كورونا لتزيد مصاعبهم وتعطي مهلة غير مستَحقّة للطبقة الحاكمة.
أما الفاجعة الكبرى فكانت أكبر انفجار غير نووي عرفه العالم.
قبل 4 آب (أغسطس)، تاريخ زلزال المرفأ الإجرامي، تغيرت في لبنان أشياء كثيرة، ليس أقلها ظهور بوادر مجاعة عند كثرة من اللبنانيين؛ وإعادة برمجة أولويات الباقين لمواجهة مرحلة تقشف لا ندري لا موعد انتهائها ولا درجة حدتها.
لكن بعد 4 آب (أغسطس) سقطت جميع التابوهات بعد أن انقشعت غشاوات كثيرة. وبرزت مشاعر شتى غلب عليها الغضب المترافق بالخوف والعجز. هذه المشاعر أبرز ما تركزت عند الجمهور المسيحي الأكثر تضرراً من الانفجار. فلقد شعر بظلم لا يحتمل واعتبر أن التعاطف معه والوقوف إلى جانبه لم يكن كافياً، خصوصاً من السلطة.
تزيد الأمر سوءاً ردود فعل الحاكم بأمره، السيد نصرالله. فهو لم يكتف بالبرود تجاه انفجار المرفأ وضحاياه، لكنه يبكي حتى الآن القائد الإيراني المقتول قاسم سليماني دون أن تدمع عيناه على مصاب بيروت وأهلها ولا حتى عمليات الاغتيال الأخيرة ولا على وضع لبنان المزري الذي يطال من لا تشملهم رعايته من “بيئته الحاضنة”. فما همّه من كل ذلك؟ أفليست لديه دولارات الإيرانيين “نظيفة” وطازجة؟
هذا بعد أن أراد إقناعنا بجهله التام بما يجري في المرفأ الذي بدا في بلاد نائية. هو بالكاد سمع أن هناك مرفأ في مدينة بيروت!! لأن أفكاره ومشاعره تتركز على متابعة ما يجري في مرفأ حيفا، خصوصاً أنه الآن أكبر وأحدث مرفأ على المتوسط بمواصفات عالية ويتهيأ لوراثة أدوار مرفأ بيروت في المنطقة والمتوسط.
بالمقابل طالعتنا في الأسبوع الفائت مقالتان، واحدة لإبراهيم بيرم الذي ينقل وجهة نظر الحزب، عنونها: “حزب الله” إلى القلقين: لا نعدّ للهيمنة على البلاد لا اليوم ولا غداً“. وواضح من العنوان إن الحزب ينفي عن نفسه تهمة الهيمنة. وهي لازمة يطلع علينا بها كأرنب الساحر كلما شعر بتململ حلفائه من اللبنانيين. وكأنه يحتاج إلى مزيد من الهيمنة؟
لكن قلم الصحافي ينزلق ويغافله فيسجل أن صفي الدين، الرجل الثالث في حزب الله، بمثابة “رئيس حكومة الحزب”!! يعني كوّن الحزب حكومته! فهل يعني أنه أقام “فدراليته” فاستغنى عن حكم البلد؟ أم أنه يتمرن على الحكم في منطقة مصغرة قبل تعميمها؟
المقالة الثانية لسامي كليب، المقرب بدوره من حزب الله، فكتب تحت عنوان “زمن الشيعة في لبنان”، إن لبنان اعتاد على أن تتقدم فيه طائفة على أخرى!! الأمر الذي يجيب عليه فارس سعيد أنها فشلت جميعها بذلك. لكن لنسلّم معه جدلاً أنه”القانون الطبيعي” للبنان، يعني أن علينا قبول فكرة أنه زمن الطائفة الشيعية وحزبها: “الجميع يستشيرونه أو يحاولون التقرب منه حين تأتي الاستحقاقات، بمن فيهم أولئك الذين يناصبونه العداء فقط في الخطابات”. ومن ثم “إن من يتابع السيد نصرالله يشعر بأن الرجل يتحدث ويتصرف كأنه الحكم والموجّه، لا بل وصل به الأمر الى حد القول: لن نقبل بسقوط رئيس الجمهورية (المسيحي) ولن نقبل بسقوط الحكومة ( السنية). ولعله كان المساهم الأهم في إجهاض انتفاضة جزء من اللبنانيين في أواخر العام الماضي. “هذا لسان حال صحافي يدور في فلك الحزب وليست اتهامات من “أعدائه”.
عبثاً يحاول الحزب التخفي والزعم بعدم ثبات أجندته برغبته في الوصول إلى دولة إسلامية تابعة لإمبراطورية إيران، التي تتهيأ للخضوع لاستعمار التنين الأصفر. ويدعونا السيد نصرالله للحاق بها إلى تلك الجنة.
لكننا سنقول له حتماً:” اسمع كلامك يعجبني أشوف أفعالك أستغرب”!
وأظن أن الحزب يخطئ إذا أعتقد أن خطبه ومناوراته ستمرّ على اللبنانيين، خصوصاً بعد انفجار 4 آب (أغسطس). انكشفت جميع الاوراق ولم تعد تنفع وريقات التين المصنّعة لتغطيتها. سياساته ونتائجها تتناقض مع رغبات اللبنانيين.
لكن المخيّب هنا ردود فعل اللبنانيين، وبعض المسيحيين منهم خصوصاً، الذين أمام أي صعوبة نواجهها كلبنانيين، تنتابهم الرغبة بالهرب لعدم مواجهة أنفسهم والواقع، فيدينون النظام والدولة المركزية، ثم يرفعون شعار الهجرة او الفدرالية او التقسيم. كأنهم لم يساهموا بإنتاجها وكأن حزب الله هبط علينا في سلة وكأنه يحكم لبنان بقوته الذاتية وليس بتغطية من جميع من في السلطة، وأولهم أكبر مسؤول مسيحي، انتخبوه واستماتوا من أجله، وأنه هو الذي أعطى تغطية أبدية لسلاح الحزب ولسياساته منذ العام 2005، شرط استرئاسه.
مع ذلك أتفهم تماماً المشاعر السائدة في الساحة المسيحية بعد الانفجار. لقد تشاركت مشاعرهم وألمهم والغبن المشوب بغضب، كبتوه معظم الأحيان، مما تعرضوا له من تدمير لحياتهم وبيوتهم ومستقبلهم. وأتفهم تماما هذه الرغبة بالخلاص من جهنم التي نعيش فيها. لكن الظن بأن الفيدرالية ستوفر لهم الأمان ظن في غير محله. فحزب الله سبقهم إليها وأقام دولته وبن مؤسساتها، فلماذا سيتخلى عن الاستفادة من الهيمنة على الكل؟ وسؤالي للراغبين بالفدرلة واللامركزية: هل سيمنع مشروعهم دعم السلع المهرّبة يومياً إلى سوريا؟ هل ستعيد لهم أموالهم المنهوبة؟ هل ستمكنهم من ضبط الحدود والمطار والمرفأ؟ هل سيفاوضون هم مع إسرائيل على حدودنا ونفطنا؟ هل سيعيدون قيمة الليرة؟ هل سيسنّون قانون أحوال شخصية مدني؟ هل سيسنّون قانون انتخاب عادل وغير ارثوذوكسي ولا لبنان دائرة واحدة؟ هل سيحلون مشكلة اللاجئين؟
في كل ذلك، يبدو لي وكأن المسيحيين يحنّون دورياً للصورة النمطية، « البروتوتيب »، التي يستعيدونها عن أنفسهم كمضطهدين احتموا بمغاور وادي قنوبين وقاديشا حيث بنوا صوامعهم وأديرتهم في كهوف الوادي. فيريدون استعادتها على شكل فدرالية تحميهم من التهديدات المستجدة.
وإلاّ علام الغرق بالأوهام بدل الحل الموجود بين أيديهم؟
ألا وهو استعادة دولتهم ونظامهم ودستورهم وقوانينهم التي انتهكت وفرغت من مضمونها وتحوّلت إلى نظام هجين مارق تحت مسميات التوافق والميثاقية ووو..
استرجعوا دولتكم ممن خطفها وممن أعطاه الغطاء الشرعي لسلاحه.
أعلنوها “مقاومة سيادية” كي تستعيدوا لبنان الذي في خاطركم.
monafayad@hotmail.com