مؤسف ما يجري في فرنسا، والآن في فيينا. لا شيء يبرر القتل. ومجتمعاتنا مسؤولة ولا داعي لزعم البراءة، ولا لدفن الرأس في الرمل. الإسلام والمسلمون ليسوا بخير، هذه مسلمات. بالطبع ليس الذبح الممارس من إرهابيي الإسلام السياسي وحده يثير الاعتراض، فالمسلمون يقومون بكثير من المشاهد المستفزة يوميا في الغرب. كأن يفترشوا الأرصفة والطرقات لتأدية صلاة الجمعة، ويصرخون “الله أكبر” في وجه ركاب باص عام كمن يشهر سلاحاً …!!
آخر الاستفزازات كان طلب بعض المسلمين في كندا إلغاء تقديم لحم الخنزير في مدارس منطقتهم!! لا يكفيهم امتناعهم عنه، بل يريدون فرض محرماتهم على الجميع! هم الذين “يحفون” كي تقبل هجرتهم ليحصلوا على العيش الكريم بعيدا عن أوطان اضطهدتهم، مع الإشارة إلى أنهم يقسمون اليمين على احترام دستور كندا، مع شرط القبول بقيم المجتمع لدرجة الانخراط في الجيش للدفاع عنه إذا دعت الحاجة. مع ذلك لا تواجههم كندا على الطريقة الفرنسية، كذلك ألمانيا وانكلترا وغيرهما.
مقاربة الموضوع لا تكون بالبحث في خصوصيات الإسلام كدين لتفسير ما يحدث. فالتطرف الديني لا يتعلق بالإيمان ولا بالدين، بل بالبشر وسياساتهم وممارساتهم التي تنسب إلى الأديان. الخطاب الديني المتشدد هو قراءة للنصوص الدينية في مرحلة مأزومة وتأويلها بشكل متطرف. للأديان السماوية مواقف مختلفة من التشدد ومن العنف. الدين المسيحي من أكثر الأديان تسامحا ومع ذلك استطاعت فئة من المسيحيين خوض حروب دينية باسمه في مراحل مأزومة، مبتكرة له وجها متشددا إلغائيا. وهذا يحدث كلما توهم طرف امتلاك الحق واستخدمه لإلغاء الآخر دمويا. ينص الدين الإسلامي على أنه لا يبغي الاعتداء على الآخرين إلا بالحق. أي لرد العدوان فقط. لكن المشكلة تكمن في التأويل المتعدد لمعنى هذا الحق.
من المتفق عليه أن الإرهاب في صيغته المعاصرة بدأ مع القاعدة من أفغانستان إثر التدخل السوفييتي العسكري للقضاء على طالبان. تشكلت هذه “الحركة الإسلامية” من تيارين إسلاميين موجودين منذ بدايات القرن العشرين (الوهابية وأفكار قطب والبنا، أي الإخوان المتحالفين الآن مع إيران،) وحظيت بتشجيع أميركا وحلفائها العرب لمواجهة الإلحاد السوفييتي. ولقد تزامن ذلك مع قيام الثورة الإيرانية.
والخميني أفتى بقتل سلمان رشدي.
قدمت مجتمعاتنا الأرضية الخصبة والركيزة العقائدية التي استغلها الغرب بجناحيه منذ البداية.
من جانب آخر، قدّم الغرب التسهيلات لحركات الإسلام السياسي، قيادات وجمعيات، وحمى نشاط أعضائها، من الخميني وصولا إلى أحمد عطا معدّ تفجيرات البرجين في 11 سبتمبر2001، مرورا بدعم رموز حركة الإخوان المسلمين تحت شعار حقوق الإنسان، فيما تغفل الديموقراطيات، احيانا، عن حماية المعارضة العلمانية والديمقراطية لأنظمة الاستبداد في عقر دارها. ولم تنتبه الدول الغربية سوى مؤخرا إلى إن أنظمة الاستبداد تستخدم القوانين الغربية ومنظومة الإعلام الغربي لتسوق نفسها وتنفذ اجنداتها. فوضعت ألمانيا حزب الله على لائحة الإرهاب فيما امتنعت فرنسا.
وفرنسا تتعرض مؤخرا أكثر من غيرها، لهجمات الجهاديين الذين يذبحون ويقتلون. فينحو المجتمع للوم الإسلام والمسلمين. فلماذا لا يربط ذلك أيضا بسياسات فرنسا، كبلد مستعمِر سابقا، وبنشاطها في عدد من البلدان من شمال إفريقيا إلى مواجهتها مع تركيا أو حضورها في لبنان!؟ ألم تُنسب لحزب الله العراضات الإسلامية براياتها السوداء وتهديدها بحجز ماكرون على طريق المطار؟
لماذا يجب ان يهدّد سلوك قلة من الإرهابين، المدارين من أجهزة وأنظمة الإسلام السياسي، بوسم ملايين المسلمين المسالمين الذين يتعايشون بأمان، يعملون ويحترمون القوانين؟ هل يتوجب عليهم أن يلبسوا ويأكلوا ويؤمنوا كالفرنسيون كي يقبلوهم؟
وهنا تبرز خصوصية المجتمع الفرنسي تجاه قبوله الآخر المختلف. يرى « برونو إتيان » أن هناك انقطاعا ثقافيا في فرنسا لا يُظهر تاريخ الأوجه المتعددة لفرنسا، لصالح الاندماج الوطني الذي فرضته الجمهورية بموافقة ومشاركة معظم الممثلين الاجتماعيين. نتج عنه عملية استئصال للثقافات الطرفية، وعالج الاختلاف الثقافي ضمن سؤال: كيف تكون مواطنا في دولة حقوق متضامنا مع إخوتك إو جماعتك الحصرية؟ الجواب: الخروج من التضامن الأولي إلى وحدة التضامن الوطني ما يجعل من كل مواطن متقاسما لنفس الثقافة السياسية.
أدّى هذا المنطق إلى جعل إشكالية المساواة الطريق المؤدي إلى التماثل بين المواطنين بواسطة ترسيخ لغة موحدة أمّنها التعليم والمدرسية الإلزامية. لكن لم يحسب حساب هجرة المسلمين والمسْتَعمَرين السابقين، فأدّى الانتشار الظاهري للمسلمين والإسلام، كظاهرة تسليم بالبقاء في فرنسا، لردة الفعل هذه. وعالجت ذلك في مقال سابق.
ردّ العلمانية، على الجهاد التوتاليتاري، كان بالراديكالية العلمانية الجديدة، التي سماها المفكر الفرنسي من أصل إيراني فرهاد خسروخافار بالنيو – علمانية. ويتفق كثر على نعتها بالدين المدني الجديد، بطقوسه وكهنوته وبدعه. الانقلاب الذي حصل حوّل العلمانية من مبدأ إدارة الدولة بحسب رؤيا اجتماعية مبنية على قبول الاديان إلى جانب الإلحاد في إطار الاحترام المتبادل. لتصبح لا هذه ولا تلك. فلم تعد تكتفي بحياد الدولة، بل صارت تريد الحياد الديني للمجتمع، ولم يعد يكفي عدم إظهار الشارات الدينية عند موظفي الدولة، بل طالت الطلاب في المدرسة الرسمية والنساء اللواتي يعملن في المؤسسات التابعة لها. تحول الأمر إلى تعليمات مقدسة للرد على الدين الإسلامي بشكل أساسي. وبهذا اكتسبت العلمانية معنى جديدا يتعارض مع دورها في حفظ الدولة خارج الدائرة الدينية. وتحول الأمر إلى حرب مقدسة ضد الجهاديين. وتعهدت الدفاع عن أولئك الذين ينشرون الرسوم الكاريكاتورية المبتذلة، كجزء من قوانين علمانية أصبحت محورية. وكلما وضعت قوانين جديدة تستهدف قمع المسلمين كلما شعر هؤلاء بالإهانة.
أمام كل ذلك، قد لا يبدو لبنان واللبنانيين، في انقساماتهم وتشرذمهم وانهيار بلدهم، مؤهلين لإسداء النصح لكائن من كان. لكن بالرغم من افتقارنا إلى جميع مكونات دولة تحمي مواطنيها أو سيادتها، لدينا ميزة منفردة تبدو وحدها الفعالة للجم الشطط الذي يحدو بالبعض، من حين لآخر، بفرض اجندته المستجلبة من الخارج، كي يستقوي بها على الداخل ليجرنا نحو العنف أو يهدد بذلك. وفي كل مرة لا يحمينا إلا العودة إلى العيش المشترك الذي يجمع اللبنانيين بجميع مكوناتهم وطوائفهم. وهو ممارسة يومية تغطي مختلف أوجه الحياة كي يعيشوا معا بسلام. كيف؟
نعرف جميعا أن اللبناني عندما يلتقي بلبناني آخر، قد لا يحمل علامات تدل على انتمائه الديني، يبدأ بالسؤال عن الاسم، وإذا كان الاسم لا يحمل أي دلالة بدوره، يسأل عن الكنية، وأيضا إذا كانت غير دالة، يسأل من أين أنت؟ وهل قريبك فلان أو علان؟
قد يظن البعض أن هذه الأسئلة دليل التعصب. لكنها ليست كذلك. إنها الدليل على أن محدثك يريد أن يعرف هويتك الدينية كي لا “يغلط” أمامك بذكر ما يسيء لمعتقدك، فيتسبب بإهانتك. إنه نوع من الرقابة الذاتية غايتها الاعتدال. العيش المشترك يفترض تحاشى الإساءة للآخر أو إهانته. طورنا ذلك منذ مئات السنين.
نتعايش معاً ونحتفل معاً في المناسبات الدينية والاجتماعية والأعياد ونحافظ على مقدساتنا. وأماكن العبادة مفتوحة للجميع. ليس الحب هو المطلوب بل الاحترام المتبادل وقبول الآخر المختلف كما هو. ففي سويسرا أيضا لا يتحاب الألمان والفرنسيون، لكنهم يتعايشون بسلام في ظل المواطنية والمساواة ويثقون بالقوانين وبمن يطبقها.
وفي غياب المواطنية الحقة في لبنان، يمارس اللبناني الفرد، من ذات نفسه، تعايشه مع الآخرين، في السلم والحرب، ومنذ نشأة لبنان الكبير. ربما على الفرنسيين التعلم من تجربتنا، في مداراة الآخر واحترام معتقداته ومقدساته. لكن هذا يفترض قبول حقه بالوجود باختلافه.
وبالمناسبة يذكر الناشر أرنو منصوري، أن حرية التعبير حق أساسي في فرنسا، لكن الإهانة والتشهير تعد جنحة. فلماذا الاستماتة في الدفاع عن البذاءة والشتيمة؟