غادرنا الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بعد أن لعب دور الماشطة التي تحاول تزيين الوجه العكر، وبعد أن مارس جاذبيته وخلاصة مهاراته في العلاقات العامة وقام بفصل السياسة عن الاقتصاد، متأملا بإصلاحات إدارية ومالية وإنمائية. أعاد تعويم رجال سلطة غارقة علقت مشانقها في الساحات، علّه يحفظ هيكل لبنان.
تجاهل ماكرون سلاح “حزب الله” ووجهه الإرهابي الذي ذكّرته به محطة “الأم تي في” بقولها: “تقول إن اللبنانيين انتخبوا “حزب الله”، فهل تعتقد أنه يمكن أن تحصل الانتخابات بحرية عندما تكون هناك مجموعة مسلحة تخيف الأشخاص بأسلحتها ووضع يدها على السلطة؟ وهل يمكن أن يحصل حوار بوجود سلاح؟”.
لا شك أن إجابته المرطبة بابتسامات جزيلة لم تقنع الكثيرين. فقبل مؤتمره الصحفي حرصت السلطة على استخدام القمع العنيف مع المتظاهرين في ساحة الشهداء، وعلى مخالفة أبسط أعراف الحرية، إحدى ركائز فرنسا، منعت قناة “الأم تي في” وكل من انتقد رئيس الجمهورية اللبناني، من الدخول إلى جنات القصر الجمهوري لتغطية اللقاء.
أما نائب الحزب الإلهي ورئيس كتلته النيابية محمد رعد فحرص أيضا على مغادرة مائدة العشاء احتجاجا على وجود النبيذ على المائدة.
يبدو أن على السيد ماكرون أن يحجّب السيدة الأولى إذا خطر له اصطحابها في المرة القادمة، على غرار تحجيب تماثيل روما الشهير! فـ”حزب الله” لا يقبل سوى بلون أحمر واحد، هو لون الدم!
ماكرون الذي جاء “ينقذ لبنان ويلبي مطالب” من استقبلوه بالأحضان وبكوا على كتفه في شارع الجميزة؛ جاء لهم بمصطفى أديب الذي رفضته الحركة الشعبية، وطرده سكان الجميزة.
ماكرون، عمليا، يساعد “حزب الله” المأزوم على تخطي تفجير 4 أغسطس الإجرامي، كي يتفرغ لغسل يديه من دم بيروت. فيعلن على لسان بعض الناطقين باسمه: ما حاجته لتخزين أسلحة وصواريخ في المرفأ؟ لديه 100 ألف صاروخ أتته من سوريا! متجاهلا عرقلتها بالقصف الإسرائيلي! الاستنتاج: الجميع مسؤول، حتى أصغر مسؤول فاسد باع بعضها للكسارات. مفهوم كل ذلك، السؤال: من أتى بالأسلحة وخزن الذخائر ومن يملكها؟ هل أحضر جبران باسيل الباخرة (على ما جاء في بعض التقارير) لحسابه الخاص دون معرفة الحزب؟ ولماذا؟
قبل مجيء ماكرون حصلت أحداث متفرقة: من جريمة بلدة كفتون الثلاثية التي يقف خلفها “إرهاب” لم نستطع حتى الآن فك طلاسمه، ومن ثم أحداث وجريمة خلدة المتكررة. وقبلها كانت حصلت تمارين في البقاع. وأخيرا محاولة إلصاق تفجير المرفأ بـ”متطرف” على غرار أحمد أبو عدس، الذي حاول “حزب الله” إلصاق تهمة اغتيال رفيق الحريري به. تمارين ما قبل مجيء ماكرون لربط النزاع تحسبا.
تجمع التقديرات أن الأرض تغلي تحت أقدام الجميع. ونلاحظ هنا تشاطر الأمين العام لـ “حزب الله” حسن نصرالله وتلاعبه على الكلام، متسائلا كباحث أكاديمي جدي، لكن مع تكرار وإعادة معلم حضانة: « هل يجب الاستجابة لبضعة آلاف من المحتجين؟ » ملمحا إلى أن لديه مئات آلاف (مجندين طبعا) ينزلهم للتظاهر المضاد. وهل يجب اعتماد آلية الاستفتاء عن أماني الشعب وآماله، أم آليات استطلاعات رأي موثوقة؟
إشكال في حريصا بعد محاولة رفع صورة ميشال عون خلال قداس أقيم على نية ضحايا انفجار بيروت pic.twitter.com/E0BkL6q5Wb
— Ayssar nourdine (@AyssarN) September 3, 2020
يغيب عنه أن مجرد طرحه لأسئلته، التي هي أجوبة ملزمة للعصابة الحاكمة، هو خرق للدستور والأعراف والقوانين. فبأي حق ينصّب نفسه الحاكم بأمره والمقرر؟ أليس سلاحه يسمح له بامتلاك ناصية القرار؟ ومن الذي سوف يتجرأ على استيراد مواد متفجرة وتخزينها دون موافقته؟
زار الرئيس الفرنسي البطريرك الراعي ووافقه الرأي بخصوص الحياد. كيف سيصرف هذا التوافق؟ عندما يتجاهل الزائر الكريم الطائف والدستور وقرارات الشرعية الدولية ويغفل التحقيق الدولي؟ فكيف إذن سنستعيد بعض التوازن في السلطة؟
فلنصرالله الحق بإعلان لاءاته الشهيرة ومن بينها لا للانتخابات المبكرة التي تبناها السيد ماكرون. ولا يحق لسيد بكركي أن يتحدث باسم الشعب اللبناني: “لا يقدر أحد في لبنان، مرجعية دينية أو غيرها، أن يقول هذا لا يريده الشعب اللبناني أو زعيم سياسي يقول هذه إرادة الشعب اللبناني”. إن ما يريده الشعب اللبناني وما لا يريده هو بجيب نصرالله وحده.
في هذا الوقت تتململ الأرضية تحت أقدام “حزب الله”، ما ألزمه بتخصيص فقرة في خطابه يتوجه فيها إلى جمهوره ناهيا معاتبا: كيف يشاهدون ويتأثرون بإعلام سماه بالاسم؟ طالبا منهم الاكتفاء بمتابعة قناته التلفزيونية وإعلامه الغوبلزي المبرج، ناصحا: “ريحوا رأسكم وشاهدوا ما يريح أعصابكم”! مع أنه كان يتحدى الثوار: “أقنعوهم قبل أن تتحدثوا معي”. على غرار « ابنوا دولة قبل أن تطالبوني بتسليم سلاحي ».
لفت نظري هذا العام غياب الرايات السود عن بيروت التي كانت تغطي كامل منطقة الحمرا. بعضها كان اتخذ شكل حاجز لمسلحي القمصان السود على تخوم أوتيل الراديسون خلف فندق فينيسيا. ناهيك عن السيارات التي كانت تطلق الندبيات التقليدية لاستفزاز الجميع. أرجح أن خفوتها يعود لتفجير 4 أغسطس المشؤوم. من هنا علينا تفسير الإشكال، المتجدد، الذي حصل في خلدة وأراده مناصرو الحزب خلافا على تعليق يافطات دينية بمناسبة عاشوراء. بينما يؤكد عرب العشائر رفضهم لها لأنها صور لسليم عياش قاتل الحريري. مهما يكن، من مصلحة “حزب الله” تحويل الخلاف السياسي إلى ديني.
قد يبدو للوهلة الأولى أن هذا مجرد تفصيل. لكن تتابع الأحداث يدعم ترابطها، واختيار خلدة حصرا لتعليق الصور، التي اختفت من المناطق الأخرى، يتقصد الاستفزاز السياسي وجعله مذهبيا. فالدين والمذهب غطاء كي يستلم “حزب الله” بوابة الجنوب ويهجّر عرب العشائر تحت شعار “يريدون تهجير الشيعة من خلدة”.
يثبت مقال سابق نشر في النهار، وظيفة المساجد ورجال الدين في تطويع المؤمنين، عندما أراد تعبئتهم لسد ضائقته المالية: “أضاف نصرالله مبتسما، في كل الأحوال، ولو لم يعد هناك مال، فإن المشروع الأقل كلفة والأكثر تأثيرا هو أن تأخذوا الناس إلى المساجد، فهناك الوسيلة التبليغية لا تنقطع”.
يقرر دون جوان في مسرحية موليير، عندما وصل إلى حائط الأخلاق المسدود، أن يلجأ إلى الخبث. وجد أن “الخبث رذيلة على الموضة. وجميع الرذائل التي على الموضة يعتبرونها فضائل. وشخصية الفاضل هي أفضل الشخصيات التي يمكن أن نلعبها”. لمهنة الخبث محاسن رائعة. إنها فن يجعل من الدجال شخصا محترما، ومهما كشفنا أمره لا يتجرأ أحد على قول شيء ضده. جميع الرذائل معرضة للرقابة ما عدا الخبث، فهو فضيلة لها امتياز تكميم الأفواه فتنجو من العقاب. سوف يلعب دور الفاضل ويتخذ من الدين درعا فيلبس عباءته. “من المسموح تحت هذا الرداء المحترم أن أكون الشخص الأسوأ. سوف أصبح منتقما لمصالح السماء، وتحت هذه الذريعة سأتحدى أعدائي وأدينهم بالكفر وأطلق العنان للمتحمسين السذج والذين يجهلون ما القضية، بالهجوم عليهم وإغراقهم بالشتائم… هكذا علينا استغلال ضعف البشر وهكذا يمكن للعاقل التأقلم مع رذائل العصر”. كأن موليير تعايش مع سلطة الملالي.
فيا لثارات الحسين! الذي حُوّرت شهادته من مناسبة للكشف عن المغتصبين بغية إصلاح دين الرسول وبهدف التضحية بالذات، ليس من أجل النصر بل العكس، فالنتيجة كانت هزيمة مؤقتة.
“سيد الشهداء” قتل دون أن يتذوق النصر. هذا النصر سيتحقق، حسب هذه الرواية، بعد وفاته عبر كشف لا شرعية السلطة الظالمة. ينقلب الأمر مع شيعة الولي الفقيه، ويترجم استشهاد الحسين الذي رضي أن يضحي بنفسه من أجل فكرة الحق والعدل، ليصبح قاتل الحريري والقتلة، المنتشرين في البلدان العربية، شهداء حسينيون.
بمناسبة مئوية لبنان الكبير انتشرت صورة الجنرال الفرنسي غورو وإلى جانبه البطريرك الحويك، علّق البعض أن المئوية الثانية تفتتح مع “صورة” ماكرون مع المرشد نصرالله.
أرجو أن يكون هذا التحليل مخطئا.
monafayad@hotmail.com