كان ينبغي استكمال ما بدأ قبل أسبوعين في موضوع الكلام عن “المغفّل المفيد“، وكيف يمكن أن يستفيد شخص أو جماعة من أفكار شخص آخر قد يكون نقيضاً لهم في كل شيء، ولكن في وسعهم توظيف أفكاره، بطريقة انتهازية تماماً، تكفي لتجعل منه مغفلاً مفيداً.
ومع ذلك، وبما أن الكاتب لا يتمكن مِنْ، ولا يحق له، النجاة من أعباء الجاري، فإن ثمة ما يبرر التوقّف عند رسالة صديقنا الياس خوري التي يعتب فيها على “النخب الثقافية والمناضلين والمناضلات” في فلسطين لأنهم لم يُظهروا قدراً كافياً من التفاعل مع ثورة اللبنانيين على نظامهم الطائفي الفاسد.
وفي السياق يطرح أسئلة موجعة: “ألا تشعرون أن اللغة القديمة ماتت، وأن فلسطين باتت تعيش في مقبرة لغوية وثقافية وسياسية؟“، “أين الضمير الفلسطيني الذي كان ويجب أن يبقى ضمير كل المضطَهدين في العالم؟“، “أسألكم لماذا هذا الصمت؟“، وينادي مَنْ يخاطبهم بالرفيقات والرفاق:
“تعالوا معي إلى البداية، ففلسطين لم تكن إلا قضية حرية وحق، وهي بهذه الصفة استطاعت أن تلهم أجيالاً من الشابات والشبان العرب الذين رأوا فيها بداية تحرر المنطقة من الاستبداد الذي جلب لها عار الهزيمة الحزيرانية. فكرة الحرية تتخذ اليوم مسارات جديدة، عنوانها النضال من أجل المساواة والديموقراطية. كيف لا تكون فلسطين جزءاً من هذا النضال؟ وإذا لم تكن كذلك فماذا تكون؟“.
في أسئلة كهذه ما يبرر فتح أكثر من نافذة في مكان ركد فيه الهواء، حتى وإن جاءت على لسان شخص على الهامش، وما أدراك إذا جاءت من جانب كاتب كبير أعتنق فلسطين هوية وقضية لا لأسباب طائفية، أو عنصرية قومية، أو دينية، بل لأنها قضية حرية، ولأن زهرة عبّاد الشمس الفلسطينية مفتونة ومسكونة بشمس الحرية، ودليل الباحثين عنها، في ليل العرب البهيم.
وبما أن الشيطان في التفاصيل، فإن قراءة سريعة لتعليقات الفيس بوك القصيرة على رسالة خوري كانت تكفي لملاحظة أن أسئلته الموجعة لم تكن تغريداً خارج السرب، بل كانت ترجمة لمشاعر لدى كثيرين. كان فوّاز طرابلسي، مثلاً، من المعلّقين على الرسالة، وهو كاتب كبير اعتنق فلسطين هوية وقضيّة، أيضاً.
وأعرفُ أن أسئلة الياس الموجعة تتجلى، أحياناً، في نظرات عتاب لا يصعب تفسيرها تلوح في أعين أصدقاء من العالم العربي نلتقي بهم في مدن وعواصم أوروبية مختلفة. ومنذ اندلاع ثورات الربيع العربي المبارك قبل ثماني سنوات، تحوّلت نظرات العتاب إلى لغة، واكتسبت مفردات صريحة وفصيحة خاصة من جانب السوريين العرب والأكراد.
الكل يسأل عاتباً أو غاضباً: ما الذي أصابكم. وإذا أردنا الحق والحقيقة، وطالما نحن في معرض تأبين صديقنا ورفيقنا أمجد ناصر، فينبغي القول إنه كان أوّل من طرح أسئلة كهذه على صفحات “القدس العربي” قبل ما يزيد عن عقدين من الزمن. وفي لقاء جمعنا في تلك الأيام أعاد طرح الأسئلة نفسها. فما الذي أصابنا؟
ثمة، في الواقع، أكثر من طريقة للتفكير لا في موضوع رد محتمل على أسئلة الياس، بل في جدوى الرد نفسه حتى قبل التفكير في مضمونه. فإذا تمثلت الجدوى، مثلاً، في إقناعه، وإقناع كثيرين نعرفهم ولا نعرفهم، بأن ثمة ما يشبه نوبة إغماء خفيفة نتيجة أعباء المجابهة مع الاحتلال، أو الانقسام، فلا فائدة من الرد.
ولا استبعد حتى لجوء البعض إلى ما وصفه الياس في رسالته “بمقبرة لغوية وثقافية وسياسية“، لاستعارة مفردات وتكتيكات سجالية من نوع: نعم، ولكن. تعرف يا حبيبنا، يا أخ الياس، ظروفنا، وما نجابه من ضغوط تستدعي الموازنة بين أشياء كثيرة، “وما في القلب في القلب، طبعاً“. ولا ينبغي حتى استبعاد “فرد الملاية” على طريقة العوالم في أفلام الميلودراما المصرية، ورشق “الأخ الياس” بعبارات قومية لاذعة من عيار ثقيل.
لذا، لا فائدة من الرد إذا حصرنا الجدوى في احتمالات كهذه. ولكن الرد يصبح مفيداً ومجدياً إذا كان مدخلاً لتأمل صورتنا في المرآة، وممارسة النقد والنقد والذاتي، لا بما يكفي لتفسير أو تبرير ما نحن فيه وعليه، بل لإغناء الثقافة الوطنية من ناحية، ومجابهة صعود وهيمنة ميول رجعية محافظة، وشعبوية بليدة، في ثقافة كانت حتى وقت قريب مسكونة بعكس هذا كله. فما الذي أصابنا؟
ولكي يستوى الكلام على سكة واضحة، أود القول إن لدىّ الكثير من التحفظات على تعبيرات من نوع “المثقفين” و“النخب المثقفة“، فهي فضفاضة، ملتبسة، وإشكالية لأنها تفتقر إلى حدود ومعايير واضحة، لا لصعوبة العثور على، وتعريف، معايير كهذه، بل لأن في ما ينجم عن الالتباس من فوضى دلالية ما يمكّن أفراداً لا تنطبق عليهم معايير كهذه من الحصول على، والإحساس بامتياز خاص، نتيجة الانتساب إلى جماعة ذات قيمة رمزية عالية، ناهيك عن فوائد مادية واجتماعية كثيرة، وكلها معرضة للضياع إذا ذاب الثلج وبان المرج، وهؤلاء هم الأكثر حرصاً على ديمومة الالتباس، و“الغموض البنّاء” الذي يمنح “المثقف” وظيفة وهمية اسمها “حماية الثوابت“.
لذا، ستكون المعالجة اللاحقة في موضوع “النخب الثقافية” و“المثقفين“، مقدمة في معرض الرد على أسئلة الياس، والذي سيغطي على الأرجح أسابيع كثيرة لاحقة. فأنا، مثلاً، لا أعتقد أن ثمة “نخبة” ثقافية في بلادنا، بل أميل إلى وجود حقول ثقافية متوازية، وإلى وجود طبقة وسطى مشوّشة، وفي حالة سيولة وفوضى كاملة، كما فسّر جميل هلال في قراءة سوسيولوجية بديعة قبل سنوات. وهذا كله يستدعي التفكير والتدبير.
khaderhas1@hotmail.com
*كاتب فلسطيني