“ابنكم توفى في السجن تعالوا لاستكمال معاملة الوفاة”.
انتهى التبليغ. لا تسليم للجثامين ولا إعلام بمكان الدفن، قد يكون الرفات في مقابر جماعية او هو انتهى الى محارق بشرية. لا لزوم للسؤال. ما يلزم هو حضور أصحاب العلاقة لتوقيع مستندات تؤكد “ان المتوفى قضى بشكل طبيعي في السجن”.
فظيع هذا “الشكل الطبيعي في السجن” لنحو سبعة آلاف مفقود. وبعدها يمكن إقامة مجالس العزاء والصلاة لراحة أنفس من انتقلوا الى رحمته تعالى، لا آمنين ولا مطمئنين ولا راضين ولا مرضيين.
فظيع أكثر، ان الاستغراب واللوعة والحسرة، كلها لا تنفي ان القتل والتعذيب والوحشية هي عدة الشغل في إطار “الشكل الطبيعي” للنظام الأسدي. هكذا يجب ان يموت مَن يقع في مصيدة هذا النظام.
لعل الشكر أوجب. فأصحاب العلاقة هؤلاء، أنعم الله عليهم بمعرفة مصير أولادهم بأسمائهم الثلاثية. لا لبس ولا قضية بعد اليوم. لهم ان يرتدوا ثياب الحداد ويتقبلوا التعازي ولكن من دون شوشرة وشغل بال، حتى لا يلحق مَن بقي بمَن أعلنت وفاته بـ”الشكل الطبيعي”.
اما أهالي المفقودين الذين لا يزالون يصرخون في الهباء منذ اندلاع الحرب الاهلية في لبنان وعلى امتداد الحكم الاسدي في سوريا وصولا الى الحرب الحالية، فهم مَن يستحقون الرثاء والاهتمام. ولهم ان يطالبوا السلطات السورية بمَلاحق للوائح مع مفاعيل رجعية، وذلك ضمن الأصول المتبعة، وبإجراءات شفافة رسمية، مع طابع بريد ودفع رسوم، لطلب بيان قيد عائلي. فإن كان ابناؤهم بين القتلى فسيتم ابلاغهم بذلك، علَّ نعمة الحداد تحل عليهم.
لوائح السبعة آلاف مفقود قضى مَن حلّ فيها بين العامين 2011 و2012، أي مطلع الثورة السورية السلمية. في المقابل أطلق النظام سراح كل مَن استخدمه لتأسيس المنظمات الإرهابية، صعوداً مع “داعش” و”النصرة، ونزولا الى الجماعات الإسلامية الصغيرة التي عسكرت الثورة وشيطنتها في رعاية قصوى واتفاقات، ربما مكتوبة، تقضي بإجلاء شياطين التطرف على متن باصات مبرّدة بعد اتمامهم وظائفهم الوسخة وتنظيف الطريق لعودة النظام ووحوشه.
كلنا شهدنا أحدث الإنجازات والمآثر في السويداء.
مدرسة لا مثيل لها في علم السياسة، هذا “الشكل الطبيعي” الذي لم يحد عنه النظام، من الأب الى الابن. وقد أبدع للقضاء على الثورة في بداياتها بمعاونة المحور الإيراني وزلمه في العراق ولبنان، فكان أبو بكر البغدادي وأبو مصعب الزرقاوي وأبو محمد الجولاني و… ممن نعرف او ممن سوف تكشف عنه الأيام.
المهم النتيجة، ولينقع أصحاب الوثائق والتجارب الحية تقاريرهم وصورهم وأفلامهم، حيث يشاؤون، وليشربوها او يرووا بها قهرهم وذلّهم وعجزهم عن حماية فلذات أكبادهم وأحبائهم. لأن كل ما جرى حافظ على “الشكل الطبيعي” للنظام الأسدي، سواء داخل السجون او خارجها.
ولتبق حبراً على ورق، شهادات “قيصر” العسكري المنشقّ عن النظام، والمكلف تصوير وتوثيق جثث مقتولين تحت التعذيب حيث هي. فـ”القيصر الأكبر” الذي وجد مصلحته في إبقاء هذا النظام واستعادة دوره العالمي، اقوى من 55 ألف صورة لجثث تحمل “آثار التعذيب بالكهرباء والضرب المبرح، وتكسير العظام، والأمراض المختلفة وبينها الجرب، إلى جانب الغرغرينا والخنق”. هل يهم كثيراً ما تتعرض له الجثث إن هي “تُرِكت في العراء عرضةً للقوارض والحشرات” قبل أن يتم “جمعها وأخذها إلى أماكن مجهولة”، لتدفن في مقابر جماعية، أو يتم إحراقها في أفران خاصة؟!
المهم النتيجة، ولا عجب اذا تحوّل سجن صيدنايا قرب دمشق الى مجموعة فنادق ومطاعم ومراكز تسوق في المرحلة المقبلة، على اعتبار ان مَن لم يرد اسمه الثلاثي في اللوائح حتى اليوم، سيرد غداً او بعده او في المدى المنظور. ولا أحد يحصي مقتل ثلاثة عشر ألف معتقل بين عامي 2011 و2015، غالبيتهم من المدنيين المعارضين. العدّاد تعطل، والأرقام أكبر بكثير من اللوائح المعلنة. ومَن تمت تصفيتهم، لا لزوم لهم ولا حاجة للنظام اليهم، الا اذا حوّلهم عملاء يقومون بخدمة وطنهم، “بالشكل الطبيعي” بالتأكيد.
وبعد، يؤكد احد المحاورين الروس على قناة تلفزيونية، ان عودة اللاجئين السوريين من لبنان ستتم “بالشكل الطبيعي” وفق خطة بلاده وما ينبثق من لجان، “لأن النظام الاسدي لن يمنع عودة الا من ذبح…”. كلنا نعرف ان مَن ذبح لم يغادر سراديب النظام واروقته حتى يعود. إنه العمود الفقري لهذا النظام.
اقلبوا الصفحة.
ولنحتفل بإطلاق سراح عهد التميمي التي “حرّرها” العدو الإسرائيلي الغاشم.