(علمتني الثورة أن لا أجد العزاء في مآسي الناس الآخرين، وأن لا أشعر بالامتنان لأن أناسا كثيرين جدا كانوا يتعذبون أكثر مني. الوجع والخسارة كالحب والفرح, فريدان وشخصيان، لايمكن تخفيفهما من خلال المقارنة بالآخرين). “آذر نفيسي“.
(كنت كمن يرى جلده مقلوبا). “شيرين عبادي“.
(خاصية هذا النظام السياسي هي أنه يدخل حياة الناس الخاصة، وصولاً إلى أسماء أبنائهم. وعندما يخرج المرء من إيران يخرج من هذا التأثير) . “نيغارد دجافادي“.
(الخطر يكمن في رسم بلد بأكمله وشعب برمته بريشة واحدة ولون واحد). “دبيتي محمود“.
*
لست وكيلا عن ضحايا الإدراك المتأخر للحقيقة والواجب حتى أتوجه لهم بالنصح!
أو باقتراح إلزام أنفسهم بواجب قراءة شهادات وسرديات الكتاب والكاتبات الإيرانيات ضمن برنامج تأهيل وتوسيع إدراك النخب في بيروت وبغداد ودمشق وصنعاء لمجريات الأحداث التي تعصف ببلدانهم؛ وتداعيات « سابقة » استيلاء الإسلاميين في طهران على الثورة المدنية، وما تلا ذلك من عنف وفوضى وحرب وخراب؛ ومن تنكيل بالكتاب والصحفيين والحقوقيين وكل اولئك الذين كانوا معهم وهم ليسوا منهم؛ ومن منع للاختلاط وفرض للحجاب، وتغيير للمعالم، واقتحام للجامعات، وإغلاق للمسارح ودور السينما، وتفجيرات واختطافات واغتيالات.
لقد أكلَ وقتلَ الندمُ الكثير من الإيرانيات والإيرانيين، وبالدرجة الأولى اليساريين والعلمانيين، الذين تحسّروا كثيرا ومرارا لأنهم لم يحفروا عميقا في طوايا الطامة التي تغلفها العمامة.
المؤسف أن جُلَّ النخب العربية اليسارية والقومية لم تتخلف عن النهوض بواجبها التضامني مع الشعب الإيراني فحسب، وإنما ذهبت بعيدا في تهافتها وترحيبها بالفاشية الدينية الخمينية حتى بعد أن تطاير شررها وتفجرت شظاياها في العديد من العواصم العربية التي صارت مسرحا لعربدة المليشيات التابعة للحرس الثوري الإيراني.
لقد الزمت نفسي ببرنامج لقراءة ما استطعت الوصول إليه من سرديات المأساة الإيرانية المتطاولة، وأعترف بحق أني اهتديت، متأخرا كعادتي، الى الطريق الأنسب لسبر جائحة الكائنات الإلهية وبالأحرى احزاب الله وأنصار الله التي تعصف بالدول وتهد الإنسان والعمران، كما هو حاصل اليوم في اليمن ولبنان.
لقد دشّن الملالي انقلابهم في طهران بالانغماس في تشتيت وتمزيق أوصال الداخل، وإخلاء وتجريف المدن من عناصرها وعلاماتها وروحها، وملاحقة المثقفين والفنانين والحقوقيين بحملات التكفير والتهجير والاغتيال. ولما كان ذلك الانغماس مكلفا ومنهكا وكاشفا للفاشية الدينية، في صورتها الهمجية والمتوحشة، فقد كانت حاجة الخميني للحرب ماسة وشديدة، وسرعان ما وجد ضالته في صدام حسين، النرجسي الأحمق، الذي أهداه حربا يتنفس بها ويكتم بدخانها الخانق أنفاس الإيرانيين إذ صار كل من ينتقد الملالي عميلا لـ“العدو“.
اعتناق عبادة الشهادة، و“الصرخة“، وطرد وإبادة كل وأي مختلف أو مخالف في الرأي أو الدين، واستباحة الفضاء العام من قبل اللجان الثورية والمليشيات الثورية، والاستيلاء على المنتجعات والشواطئ وتحويلها إلى مراكز للمليشيات وأهداف حربية ومعسكرات ومزارع ألغام ومربعات أمنية تحيط بقصور أمراء الحرب… هذه بعض العناوين البارزة لحقبة الملالي التي صار فيها الشيوعيون والعلمانيون “عملاء“، ولم يعد فيها البهائيون مهرطقين فقط بل عملاء وجواسيس ومن الواجب قتلهم لأنهم“بذرة الشيطان“.
“لقد ارتد الزمن الماضي كالسكين“! وبعد استيلاء الإسلاميين على الثورة ودخول البلد في دوامة العنف والفوضى بدأت أدرك هشاشة وجودنا الدنيوي، والسهولة التي يمكنهم بها أن ينتزعوا منك كل ما تقدر أن تسميه وطنا، كل ما يمنحك كيانا وهوية، إحساسا بالذات والانتماء“. “آذر نفيسي“.
من جانبها تقول النوبلية شيرين عبادي: « لم يعد الوطن وطناً، تغيرت حياتنا، ليس بسبب الكارثة والأشلاء، بل بسبب شتى أنواع العنف، ومعظمه عنف غير ملموس. كان الدود يلتهم حيواتنا اليومية »…، “بلغنا مرحلة كنا نرغب فيها أن نحافظ على ما كُنا نمتلكه وليس النضال من أجل ما تجرأنا على تصوره“، و“صار كل شيء يحدث بهيئة شظايا“.
وما أكثر السرديات التي تستعرض المزاج السوداوي، ومشهد الجنازات الجماعية، الذي يتكرر يوميا بحماسة احتفالية بـ“الشهادة“، والسيقان المبتورة، وصور الشهداء، والتمدد الأخطبوطي لحراس الأخلاق والفضيلة، وللأجهزة الإستخباراتية المنتشرة في كل الاتجاهات، والنمو المفرط لشهية العنف، وإشاعة الأجواء المشحونة بالتوتر والخوف والترهيب والوعيد، والجرائم التي تحمل توقيع المليشيا في كل مكان وتُسجَّل غالبا ضد مجهول، والتفاهة والتهريج والبلاهة، والأكاذيب والفخاخ والخيانات، والعدد المتزايد للأقارب والأصدقاء الذين يختفون أو يفرون من البلد أو يودعون السجون والإمعان في تمزيق أوصال البلد ومحاصرته بالقوانين القمعية، واستقرار ثقافة المرتزقة، وغرابة التصرفات البشرية ووو….، كل ذلك الذي كان يحدث هناك، ويتكرر اليوم عندنا بصورة أعنف وأحقر.
صرخة الحرب
كان النظام السابق في اليمن عبارة عن وكالة للقتل والحرب والنهب. وقد أسهم كثيرا في تأهيل الحوثيين بخوض ستة حروب معهم تكشّف فيما بعد أنها كانت دورات تدريبية، رغم أنها أسفرت عن مقتل أكثر من 60 ألفاً وما لا يحصى من الجرحى وذوي السيقان المبتورة.
في الحرب الأولى أعلن رأس النظام أنه استهدف إخراس تلك “الصرخة” المستفزة التي نقلتها الجماعة الحوثية حرفيا من إيران: “لله أكبر, الموت لأمريكا، الموت لإسرائيل، اللعنة على اليهود، النصر للإسلام“.
كان الذين يهتفون بـ“الصرخة” قلة من أعضاء الجماعة وأنصارها في “صعدة“، وفي الجامع الكبير بصنعاء! ولأن هذه المليشيا تتنفس وتتغذى وتتكاثر بالحرب فقد تحولت “الصرخة“ إلى هتاف صباحي إلزامي في المدارس والمعسكرات، وإلى موضوع لأبحاث ورسائل جامعية، ووِرَش وندوات يشارك فيها أكاديميون من أصحاب السوابق اليسارية ليبرهنوا على أن الخط الفاصل بين الشيوعية والشيعة خرافة!
لقد تناوبت مليشيات الإسلام السياسي “الإخوانية“ و“الحوثية“ الاستيلاء على “الثورة الشبابية” المغدورة، مستثمرة في هشاشة وفقر وأمية معظم السكان. وتكررت الطامة والداهية الإيرانية في “صنعاء“ بصورة مريعة ومدوية.
وعبّر ملالي طهران عن اغتباطهم بخفة وسرعة “شيعة الشوارع“، هذا إسم الدلع الذي أطلقه بعض ملالي إيران على الحوثيين.
وبالفعل تأكدت البراعة والمهارات القتالية في الميدان وأظهر التلميذ تفوقه على أستاذه مع اقتفاء صارم لأثر المعلم وأثر“حزب الله“، وتقليد غزواته. كما حدث عند اقتحام صنعاء، والانقلاب على “مؤتمر الحوار الوطني“، بعد أن شاركوا فيه، وعلى “مشروع الدستور“ في صبيحة اليوم الذي تحدّدَ للتوقيع عليه، وإقامة “سلطة اللجنة الثورية“ على انقاض سلطة الشرعية المتهاوية في 21 سبتمبر 2014، واستخدام كل “عِدّة الشغل” التي سبق وأن جُربت واعتمدت في طهران، بتقليد مبتذل ومتطرف وعنيف وأعمى.
وكان التطرف في التقيُّد مذهلا ومهولا! فقد أصبحت مواكب الجنازات الجماعية اليومية طقسا يوميا، وتكاثرت المقابر أكثر من أي شيء آخر، وصارت من علامات الساعة الحوثية، ولم تعد الجدران تتسع لمزيد صور الشهداء، وغدت أنفاس إيران ولاية الفقيه تتردد الآن وهُنا.
بعد انقلابهم مباشرة جاهروا بأن ““المسيرة القرآنية” التي يحملون لواءها ليس لها حدود، وأن الهدف القادم هو “الحرمين الشريفين“، واهتزت الأرض من تحت أقدام دول الجوار الخليجي، وتنادوا لعقد سلسلة من اللقاءات، وأهمها اجتماع وزراء خارجية دول مجلس التعاون الخليجي في 15 مارس 2015 لمناقشة الأزمة اليمنية، وقد تقصدت الجماعة الحوثية الرد عليه في نفس اليوم وفي الميدان، حيث نفذت مناورات عسكرية على الحدود الجنوبية مع السعودية استخدمت فيها جميع أنواع الأسلحة التي استولت عليها من مخازن الجيش، أو حصلت عليها بمباركة من الرئيس السابق.
وفيما كان وزراء خارجية دول مجلس التعاون يعقدون اجتماعهم في الرياض، كان الحوثيون ينفذون مناورة عسكرية بالذخيرة الحية على حدود السعودية، ويهتفون صرختهم: الموت لأمريكا و….الخ.
وحتى قبل ذلك بأشهر وقبل إعلان السعودية و“تحالف دعم الشرعية” عن التدخل لإعادة الحكومة الشرعية في 25 مارس 2015 م، كان سفير طهران بصنعاء يتحرك كالمندوب السامي، ويتابع ويشرف على إعدادات المنازلة الكبرى، ويعقد الاجتماعات حتى مع قيادات حزبية يسارية وقومية ليخطرها بأنه ستتم السيطرة على “تعز“ و“عدن“ والمحافظات الجنوبية بإحكام لتأمين مؤخرة الجيش الذي سيحارب السعودية، ووضع دول الخليج الأخرى تحت رحمة إيران وفي مرمى النيران.
شاهد هذا الفيديو: القيادي في الحرس الثوري، سعيد قاسمي، ساخراً من الحوثيين: “الشيعة الأقزام اليمنيين الذين يتأزرون بفوطة ويضعون خنجراً على خصورهم والذين أسميهم شيعة الشوارع، كونهم لم يكونوا مثل اللبنانيين وليسوا بمتمكنين ولا متحضرين ولا جميلين مثل اللبنانيين. شيعة الشوارع هؤلاء سيطروا على مضيق باب المندب، إنه لانتصار كبير والكل يعلم هذا. قيادتنا في إيران تعلن من باب المراوغة أنها لا تتدخل في الشأن اليمني، لكن من سيصدق هذا ونحن نقوم باستقبال جرحى الحوثيين والتقاط صور السيلفي معهم كل يوم”! من كان يظن أن مضيق باب المندب، ثاني أكبر مضيق استراتيجي في العالم سيقع بيد الشيعة؟
لم يجر أي شيء بالخفاء أو من وراء ستار! وكانت الأسلحة تتدفق عبر البحر، وعبر رحلات الطيران اليومية من طهران إلى صنعاء. وكان المئات من أعضاء وأنصار الجماعة ومن الإعلاميين والكتاب والأدباء يسافرون إلى بيروت الضاحية الجنوبية، أو يتخذون من « الضاحية » محطة انطلاق إلى طهران.
وقبل اندلاع الحرب المفتوحة التي دخلت عامها السادس في مارس الماضي كان الحوثيون يقتفون أثر الآلة القمعية والتنكيلية لمليشيات الحرس الثوري. وقد قاموا بالتنكيل باليهود اليمنيين الذين كانوا أكثرية في “صعدة“ قبل أن يأتي أجداد عبد الملك الحوثي من الحجاز وطبرستان.
وقامت المليشيات الحوثية بتفجير منزل حاخام الطائفة اليهودية اليمنية يحيى يوسف الذي ورثه عبر قرون وتسويته بالأرض على مرأى من الحاخام وأسرته وأبناء الطائفة من يهود آل سالم اليمنيين الذين أجبروا على ترك ديارهم بليل وسط صمت منظمات المجتمع المدني والدولي.
وكذلك كان مصير كافة البهائيين اليمنيين حيث رزح كبارُهم وصغارُهم في السجون وأصدرت المحاكم الاستثنائية بحقهم أحكاما بالإعدام لأنهم “جواسيس“، إلا أنهم نجوا بموجب صفقة مهينة أبرمها المبعوث الأممي مع الحوثيين، وقضت بترحيلهم من بلادهم بملابسهم فقط. وقد تمت العملية بتغطية وتمويل من الأمم المتحدة التي رعت نقلهم من السجون الى مطار صنعاء ثم الى أديس أبابا، وبعدها جرى توزيعهم على العواصم الأوربية وأمريكا وكندا! وقد تفاخر “مارتن جريفت“ قبل أشهر بهذا المنجز اليتيم والعظيم الذي تمثل بمباركة تجريد اليمنيين البهائيين من حقهم في الإقامة في بلادهم.
كل تلك الإرتكابات حملت بصمة وتوقيع إيران الملالي.
*
كان ” أبو حسن” هو المشرف الأبرز والمنسق غير المباشر بين مكتب الولي الفقيه علي خامئني وقيادة الجماعة الحوثية. و“أبو الحسن” هو “حسن إيرلو“ الذي أعلنت وزارة الخارجية الإيرانية وصوله إلى صنعاء في 17 أكتوبر كسفير لطهران، رغم الحصار الذي يفرضه التحالف بقياد السعودية، في خطوة وصفها مراقبون بـ “اختراق موجع للرياض“.
وتفيد قيادات حوثية سابقة أنه كان هو الشخص الذي يوجه الدعوات للصحفيين والكتاب اليمنيين رجالا ونساء لزيارة طهران وضريح الخميني وغيره، وكان مسؤولا عن الملف اليمني. وهو قيادي متعصب وخبير سلاح ولا علاقة له بوزارة الخارجية. فقد كان ضمن الحرس الثوري وهو جريح سابق في الحرب العراقية الإيرانية، وقد جاء تعيينه سفيرا لدى سلطة الانقلاب التي يشرف عليها لأنه على صلة وثيقة بأغلب القيادات الحوثية. فقد كان يستضيفهم ويصرف لهم المخصصات المالية في بيروت وطهران ويرسلها إلى اليمن خلال العقد الأخير. كما أن بعضهم كان يتقاضى منه مخصصات دون علم عبد الملك الحوثي. وكان يحرص على توثيق تسليم تلك المخصصات بالتوقيع. وهنالك من يخشى من توثيق بالفيديو للحظة الإستلام كما يفيد الناطق السابق لجماعة “أنصار الله” علي البخيتي.
المؤكد هو أن المليشيات الحوثية هي الأقل كلفة، والأكثر مردودية بالنسبة لإيران.
ومع أن مليشيات الإسلام السياسي في اليمن هي – غالبا – “مدفع لمن يدفع“، إلا أن الحالة الحوثية حافلة بالمفارقات، ومنها على سبيل المثال أنها دشّنت قبل أشهر حملة تبرعات واسعة لدعم حزب الله مع أنها صادرت ونهبت أموال البنك المركزي اليمني وغيره من البنوك، وقطعت مرتبات الموظفين في المناطق التي تقع تحت سيطرتها، وهم غالبية موظفي الدولة, ورغم أن هذه المناطق بما فيها العاصمة صنعاء محرومة من خدمة الكهرباء والماء وتغرق في الظلام منذ خمسة أعوام.
هذه هي الحمم التي يبصقها ” الحرس الثوري” الإيراني على العواصم المحتلة من قبل المليشيات التي يديرها وفي مقدمتها الذراع الإستراتيجي: حزب الله الذي تكللت مقاومته لإسرائيل بتدمير لبنان وشل حركة مصارفه وجامعاته والمرفأ والمطار وكل ذلك في سبيل الولي الفقيه والإمام الأكبر.
ألم نقل أنه يجدر بنا أن نقرأ ما حدث في طهران من فبراير 1979 لنفهم بعض ما يعصف بوجودنا وبما تبقى منا.
ويجدر بنا أن نتضامن ونؤيد حق الشعب الإيراني في استعادة زمام أمره وتقرير مصيره بالانعتاق من ربقة أخطر مليشيا دينية فاشية شهدها العالم خلال العقود الأخيرة.
هي دعوة لأن نتضامن مع أنفسنا.
مبدع جداً عزيزي منصور هايل
مقال بديع ولغة سهلة وسلسة وأفكار عميقة لكاتب وصحافي متميز للغاية.