على مدى أَحَدَين (4/7 و12/7/2020) تحدث البطريرك الراعي في عظة الأحد عن أمرين اثنين: إطلاق سراح الشرعية والقرار الوطني الحرّ، والعمل مع المجتمع الدولي على إعلان حياد لبنان.
لقد بدأ تذمّر البطريرك منذ قرابة العام. وكانت مطالبه مكافحة الفساد والمحاصصة، والإصغاء لصوت شباب الانتفاضة بعدما اندلعت. وقد شاركته في التذمّر قيادات روحية مسيحية وإسلامية. بل وما كان البطريرك يائساً كما هو عليه الآن. فقد كان يقول إنّه يأمل أن تقوم الحكومة الجديدة بمهام حكومة الإنقاذ التي تدّعيها. أما الآن فيتحدّث البطريرك الماروني ومطران بيروت للروم الأرثوذكس بلهجة اليائس من كلّ شيء، والطبقة السياسية هي عنوان هذا اليأس المدوّي، والدلائل على ذلك تفشّي مظاهر الخراب الاقتصادي والاجتماعي والمجاعات وحوادث الانتحار، دون أن يبدو أنّ أهل السلطة مهتمّون لشيء غير مصالحهم الشخصية!
في عظة الأحد 4/7 دعا غبطة البطريرك رئيس الجمهورية للعمل على إطلاق سراح الشرعية. والشرعيات الثلاث المتمثّلة في العيش المشترك والدستور، والإجماعات العربية، وقرارات المجتمع الدولي، هي عماد بقاء لبنان وحرياته واستقلاله وعيشه المزدهر. وعندما يعتبر البطريرك الشرعية أسيرةً؛ فلأنّ هذا العهد أصرَّ على زعزعة العيش المشترك بقانون انتخابات يقسّم لبنان إلى طوائف، وعمل كلّ ما بوسعه على تصديع الدستور ولو بالممارسة، بحجة استعادة صلاحيات رئيس الجمهورية، واختراق المؤسسات والقوانين. وإلى ذلك، فقد أزال الحدود الفاصلة بين الدولة والدويلة بالتحالف المطلق مع السلاح غير الشرعي، وما أنكر على زعيم الحزب الهجوم الدائم على الدول العربية الخليجية التي التزمت دعم لبنان وعيشه وعمل شبابه منذ عقودٍ وعقود. وإلى ذلك، فإنّ الحزب خالف إعلان النأي بالنفس الذي وقّع عليه في بعبدا عام 2011، وتدخل في الحرب السورية كما تدخل بالعراق واليمن والكويت.. الخ.
وهكذا فكيف تستطيع مطالبة الدول العربية بمساعدة لبنان وسط هذه السيطرة المعادية للعرب. وما ذكر البطريرك بالطبع كلّ هذه الوقائع المتعلّقة بالعزلة التي فرضها الحزب المسلَّح على لبنان؛ لكنه ظلَّ مصرّاً على تحرير الشرعية، وعلى الإجماعات العربية الواقفة دائماً إلى جانب لبنان.
لكنّ الشرعية اللبنانية ليست أسيرةً لجهة عدم مراعاة أحكام الدستور بالداخل، ومقتضياتها العربية أيضاً؛ بل هي أسيرةٌ أيضاً لجهة المجتمع الدولي وقراراته الحاضنة لسلامة لبنان والحامية له.
لدى لبنان، من الشرعية الدولية، القرار رقم 1559 (صدر في العام 2004) الذي يمنع وجود سلاح على أرض لبنان لغير القوى العسكرية والأمنية الشرعية، ولدينا كذلك القرار رقم 1701 (صدر في العام 2006) الذي قرّر إرسال الجيش اللبناني إلى الحدود مع العدوّ، تدعمه قواتٌ دولية، بلغ عديدها أكثر من اثني عشر ألفاً. ومنذ العام 2006 استتبَّ الهدوء الكامل على الحدود، وأنفق المجتمع الدولي 11 مليار دولار على عديد القوات وعتادها. وهذا فضلاً عن مساعدة الأميركيين والفرنسيين والبريطانيين والألمان للجيش اللبناني بشتى السبل والوسائل التسليحية والتدريبية.
منذ بداية العهد يقول الرئيس إنّه محتاجٌ لسلاح الحزب لأنّ الجيش ضعيف. ويقول إنّ حزب الله لا يستخدم سلاحه بالداخل، وأنّ سلاحه باقٍ حتّى نهاية أزمة الشرق الأوسط! وهذا كلّه، مع ما يقوم به الحزب تجاه الدول الغربية، والتي صار معظمها يعتبره تنظيماً إرهابياً. لذا، فإنّ عزلة لبنان دولية أيضاً. ولا ندري ماذا سيقول الدوليون عندما يُطرح التجديد للقوات الدولية في شهر آب المقبل؛ ما دام الرئيس يقول عملياً إنّه لا يحتاج إليها.
فقبل شهر، استدعى رئيس الجمهورية قائد القوات الدولية إلى قصر بعبدا وأبلغه حاجة لبنان المستمرّة للقوات الدولية. لكنّه ما استجاب لطلبه بزيادة صلاحياتها بحجة حرمة الأملاك الخاصة، وهي التي ساورها القلق لكثافة التسلّح من حولها رغم حظر السلاح جنوب الليطاني!
إنّ القطب الآخر اللازم في كلام البطريرك، هو مسألة حياد لبنان. كان المسلمون يخافون من هذه الدعوة في السابق باعتبارها يمكن أن تشكّل خطراً على التزامات لبنان العربية (القضية الفلسطينية). لكنّ البطريرك في عظته يوم 12/7 تحدّث عن التزامات لبنان تجاه القضية، وهو أمرٌ بديهي. ففي لبنان مئات الألوف من اللاجئين الفلسطينيين، وفي مقدمة الدستور اللبناني أنّه لا توطين. ولذا، فإنّ لبنان صاحب مصلحةٍ كبرى في الحلّ العادل للقضية بحيث يتنفّذ حقّ العودة. وما نسي البطريرك الأرض اللبنانية المحتلة (مزارع شبعا وتلال كفرشوبا)، التي لن تتحرّر إلاّ من خلال مجلس الأمن وقرارات الشرعية الدولية.
الحياد ضروريٌّ، وما عاد التحييد كافياً كما في إعلان النأي بالنفس الذي خرج عليه الحزب محتقِراً له بعد شهرٍ أو شهرين من توقيع مندوبه عليه! فالحياد ترتيب دوليٌّ يجري النصُّ عليه في الدستور، وإذا خرج عليه طرفٌ لبناني رسمي أو غير رسمي، فهناك نتائج تترتّب عليه فوراً. وهو ضرورةٌ لأنّ لبنان، نتيجة حكم السلاح المسلَّط على رقابنا جميعاً، صار عدواً علنياً للعرب والعالم، وبأيّ حجة؟ بحجة الالتزام بمحور الجمهورية الإسلامية!
يا جماعة، نحن لا نعتدي بالاستسلام للسلاح ووهجه على العرب والعالم فقط. بل ولا ننفّذ القرارات الدولية التي تحمي بلادنا مثل الـ1559 و1701. وقبل أيام قام الأميركيون والفرنسيون بتذكيرنا بالقرار 1559 (2004) الذي يحرِّم وجود سلاحٍ غير سلاح الشرعية على أرض لبنان!
فمَنْ من اللبنانيين له مصلحةٌ في أن تكون هناك عدّة جيوش ومدن مهدَّدة وأمن بالتراضي على “أرض الله الصغيرة” هذه؟!
كلام البطريرك لا يعني نفادَ صبرٍ فقط. بل يعني حكمةً وبُعْدَ نظر. فالذين يسرقون المال العام، ويجوّعون الشعب اللبناني، لا يمكن أن يظلُّوا مؤتمنين على دستور لبنان وعيشه المشترك وعلاقاته العربية والدولية. فلتكن مبادرة بكركي منطلقاً للإصلاح الجذري الذي ينقذ لبنان في الحاضر، ويعيد تشكيل قواه الذاتية البنّاءة إعداداً للمستقبل الحرّ والزاهر.
ليس المطلوب قيام جبهة سياسية لإنفاذ كلام البطريرك. بل المطلوب والضروري الآن الحوار الوطني الجامع بشأن هذه الثلاثية البطريركية التي ينبغي أن تكون جامعة: تحرير الشرعية من طريق احترام الدستور، وتنفيذ قرارات الشرعية الدولية، والذهاب إلى حياد لبنان ضماناً لمستقبله واستقلاله وأمنه وسلامه الداخلي.