“فيما تعيش البشرية تبعات أزمة كورونا، فقد تكون هي الأزمة الأسوأ للجيل الحالي، ومن المحتمل للقرارات التي سوف تُتخذ من قبل الناس والحكومات خلال الأسابيع القادمة أن تؤثر على العالم لسنوات عدة، ليس فحسب على الخدمات الصحية بل ستؤثر أيضا على الاقتصاد والسياسة والثقافة. يجب أن نتَخذ قرارات جادة وسريعة، وفي الوقت نفسه يجب أن نضع في اعتبارنا العواقب طويلة الأمد المترتبة على أعمالنا. وحينما ننتخب خيارا من الخيارات المختلفة، لا يجب فقط أن نتساءل كيف يمكن أن ننجو من الخطر الكبير المحدق بنا، بل يجب أيضا أن نتساءل بأنه في حال مرّ هذا الطوفان، ما هو نوع العالم الذي سنعيش فيه؟ نعم، سيمرّ هذا الطوفان وسوف يعيش أغلبنا، لكننا سنعيش في عالم مختلف”.
ما جاء في الأعلى هو جزء من مقال للمفكر والمؤرخ الإسرائيلي “يوفال نوح هراري” حول توقعاته لما سيحدث في العالم بعد انتهاء مرض كورونا. وتم نشر المقال في صحيفة “الفايننشال تايمز” البريطانية في عدد ٢٠ مارس. وبما أنه يحتوي على رؤية مستقبلية مثيرة، ارتأيت ترجمة بعض الأجزاء منه:
الكثير من التغيّرات على المدى القصير، تُصبح ثوابت في حياتنا. فمن طبيعة الأزمات الطارئة، أنها تسرّع التحولات التاريخية. أما القرارات التي تصدر في الأوقات العادية نتيجة لسنوات من البحث والتفكير، فيتم حاليا اتخاذها في غضون ساعات. ماذا سيحدث إذا اشتغل الجميع وهم في منازلهم، وأصبح التواصل بين الموظفين يتم عن بُعد؟ ماذا سيحدث لو تم اعتماد الدراسة عن بُعد في جميع المدارس والجامعات من خلال برامج الانترنت؟ لن تقبل الحكومات والشركات والإدارات التعليمية أن تخوض مثل هذه التجارب في الظروف العادية، لكننا لا نعيش ظرفا عاديا في الوقت الحالي. نحن، في ظل ظروف الأزمة الراهنة، نواجه انتخابين مهمّين، الأول أن ننتخب (نختار) بين النظرة الشمولية وتمكين المواطنين، والثاني أن ننتخب (نختار) بين العزلة القومية والتضامن العالمي.
من أجل وقف وباء كورونا، يجب على الجميع أن يتقيّدوا ببعض الإرشادات المحددة. هناك طريقان رئيسيان للوصول إلى هذا الهدف.
الأول هو أن تقوم الحكومة بمراقبة الناس ومعاقبة كل من ينتهك القوانين. واليوم ولأول مرة في تاريخ البشرية تساعدنا التكنولوجيا على مراقبة الناس في جميع الأوقات. قبل ٥٠ عاما لم تكن منظمة “الكي جي بي” (الاستخبارات السوفييتية) تستطيع أن تراقب ٢٤٠ مليون سوفييتي في ٢٤ ساعة، ولم تكن قادرة على أن تعيّن جاسوسا لكل شخص. لكن الدول الحالية وبدلا من أن تتجسس بصورة تقليدية، باتت تعتمد على تقنيات مراقبة وتجسس موجودة في كل مكان.
بعض الدول في مواجهتها للوباء، استفادت من أدوات المراقبة الجديدة، كالصين. فمسؤولو هذه الدولة استطاعوا عن طريق مراقبة أجهزة الموبايل والإستفادة من مئات ملايين الكاميرات الموجودة في كل مكان أن يتابعوا الحالة المرضية لمواطنيهم. كذلك أمر رئيس الوزراء الإسرائيلي باستخدام أجهزة مراقبة العمليات الإرهابية، لمتابعة مرضى الوباء.
غير أنه يمكن لهذا الوباء أن يمثل تحولا مهما في تاريخ مراقبة الأفراد، ويمكنه الانتقال من مراقبة ظاهر الأشياء إلى مراقبة ما هو مخفي، أي لا يكتفى بمراقبة ما هو ظاهر “فوق الجلد” بل سينتقل لمراقبة ما هو “تحت الجلد”. فحينما كانت الحكومات تراقب أصابعك لتعرف الأرقام التي سوف تختارها للإتصال عن طريق الموبايل، تسعى الآن لمراقبة أصابعك لمعرفة درجة حرارتها ومستوى ضغط الدم فيها. إن تقنية المراقبة تتطور بسرعة كبيرة. فالذي كنا نعتبره شأنا علميا/خياليا قبل عشر سنوات، أصبح موضوعا قديما في الوقت الراهن.
في السنوات الأخيرة حدث صراع كبير حول موضوع “الخصوصية”. وأعتقد بأن أزمة كورونا ستكون نقطة تحول هذا الصراع، لأنه لو خيّرنا الناس في أن تختار بين “الخصوصية” وبين الصحة فإنها ستختار الصحة.
جذور المشكلة تكمن في هذه المسألة، أنه سوف يُطلب من الناس أن تختار بين “الخصوصية” وبين الصحة، وهو انتخاب خاطئ. فعلينا أن نستفيد من “الخصوصية” ومن الصحة، وانتخابنا يمكن أن يكون في حرصنا على سلامتنا وفي قدرتنا علی مواجهة الوباء، وفي عدم إنشاء أنظمة مراقبة شمولية، بل بتمكين المواطنين. من أبرز الدول التي أبلت بلاء حسنا في مواجهة وباء كورونا هي كوريا الجنوبية وتايوان وسنغافورة، حيث استفادت من برامج الحاسوب لتتبع الحالة، وكثفت من فحص الحالات، واعتمدت على تقارير حقيقية، وتعاونت مع فرق تطوع تتمتع بكم كبير من المعلومات الصحيحة.
إن الرقابة المركزية والعقوبات القاسية ليست الوسيلة الوحيدة لإجبار الناس على اتباع النصائح المفيدة. فحينما تتحدث للناس عن الحقائق العلمية، ويثق الناس بالمسؤولين الحكوميين الذين لم يخفوا عنهم تلك الحقائق، حينها يستطيع الناس إنجاز أعمال صحيحة، حتي لو لم يكن هناك “أخ كبير” يراقبهم. فأفراد المجتمع الذين لديهم دوافع ذاتية وكثير من المعلومات، سيكونون أكثر قوة وتأثيرا من أولئك الذين يكونون تحت سيطرة الأمن والجهل. لننظر إلى موضوع غسل اليدين بالصابون، وهو واحد من أعظم إنجازات البشرية المتعلقة بصحة الإنسان، حيث أدى إلى إنقاذ ملايين البشر. فمليارات من الناس يغسلون أيديهم كل يوم، ليس لأنهم يخشون من “شرطة الصابون”، ولكن لأنهم باتوا يفهمون الحقائق.
وللوصول إلى هذا المستوى من الامتثال والتعاون، هناك حاجة إلى الثقة. فالناس يحتاجون إلى الثقة بالعلوم وبالمسؤولين الحكوميين وبوسائل الإعلام.
وفي السنوات الأخيرة، تعمّد بعض السياسيين أن يضعضعوا ثقة الناس بالعلوم وبالمسؤولين الحكوميين وبوسائل الإعلام. لذا يميل نفس السياسيين، الذين اعتادوا طريق الاستبداد، إلى التأكيد بأنهم لا يمكنهم الوثوق بالناس.