نسبةٌ لا يستهان بها من أساتذة الجامعة اللبنانية الذين استنفروا للدفاع عنها وإعلان فخرهم بالانتساب اليها، ردّاً على انتقاد ما يحصل فيها، هؤلاء الأساتذة أولادُهم درسوا او يدرسون في جامعات خاصة.
في الامر اعتراف صريح بأن الجامعة التي خرّجتهم وفتحت لهم أبواب التحصيل الأعلى وصولاً الى شهادة الدكتوراه من جامعات أكبر العواصم العالمية، هي غير الجامعة الحالية التي تنوء تحت وسخ الانتهازية الطاغية على الطبقة السياسية اللبنانية التي حولت هذا الصرح الوطني الى مرفق خدمات.
والا لكانوا وفّروا عشرات الالاف من الدولارات، على اعتبار أحقية ابن الأستاذ في الالتحاق بجامعة أبيه.
“الافتخار” الذي جاء رداً على الانتقاد وتسليط الضوء على غيض من فيض مما يحصل في الجامعة الوطنية، يعيدنا الى مواسم القهر التي عاشها هؤلاء الأساتذة مع كل حملة من حملات التفرغ، وهم يقرعون أبواب السياسيين لتنزل اسماؤهم على اللوائح. كانوا خائفين لأن المحاصصة تهدد مستقبلهم المهني وتحرمهم حق التطور الوظيفي الطبيعي، وبعضهم اشتكى بسبب إدراج أسماءٍ لأساتذة غير كفوئين في الجداول. مَن اعترض وانتقد ولهث ليتمكن من أخذ حقه، بناء على شهادته وكفاءته، هبّ اليوم ليرفض تسليط الضوء على علل الجامعة والمحاصصة والمحسوبيات الكفيلة بالقضاء عليها وحرمان كل من لا يستطيع الى غيرها سبيلاً للتحصيل، وأعلن عبر حملة طويلة عريضة على مواقع التواصل الاجتماعي انه “يفتخر” بانتسابه اليها.
بالتأكيد هو يفتخر بالجامعة، يوم كانت جامعة تحمل ابن عكار وابن الهرمل وابن الشوف وابن الجنوب الى بيروت لتصهرهم في بوتقة وطنية واحدة تتفاعل باختلافات بنّاءة ثقافية وفكرية.
ومن “يفتخر” يكابر، من دون ان يضع إصبعه على جرح التعليم في لبنان. فهو لا يعيش في برج عاجي. هو يعيش مع طلاب ترتفع نسب نجاحهم في امتحانات المرحلة الثانوية لتتجاوز الـ90 %. وهذا لعمري مؤشر خطير إلى الانهيار التصاعدي لنوعية العلم في لبنان.
هو يعيش مع طلاب يعجزون عن كتابة اللغة الصحيحة بالعربية او بالاجنبية، وله ولنا ان نستنتج كيف سيتابع تحصيله الجامعي. لأن الجامعة ليست سوى تطور بديهي لمسيرة التعليم التي تقود اليها.
وهو يعيش مع أساتذة حيّزٌ من كفاءتهم انهم مدعومون. لهذا هم زملاء له.
مثله مثل فئة كبيرة من اللبنانيين العاجزين عن صنع وطن، او الساكتين عن المستفيدين من غياب الوطن لمصلحة الخيرات التي يدرّها عليهم غياب الشفافية والمساءلة والاثراء غير المشروع.
قمة الانهيار عندما يعتبر أستاذ جامعة، رسالتُهُ صنع النخب الفكرية والعلمية والاقتصادية، ان تسليط الضوء على العيوب هو جريمة لا تغتفر لأنه يشوّه السمعة. أكثر من ذلك، هو مؤامرة للقضاء على الجامعة. اما العيوب الكفيلة بإنجاز ما يمكن للمؤامرة ان تفضي اليه وبسرعة تدحرج كرة الثلج، فهي تندرج في الصيغة اللبنانية التي تعوّد عليها، ويريد للقلة التي لم تتعود، ان تكفّ عن المشاغبة وتقبل، حتى يغيّر الله أمراً كان مفعولاً، متجاهلاً ان الله لا يغيّر بقوم حتى يغيّروا ما بأنفسهم.
العيوب التي تفتك بالجامعة تنخرها من القاعدة الى الهرم، تماماً كما تنخر كل مؤسسات الدولة. وهي لا تقتصرعلى فرض هيمنة طائفية، عبر الإصرار على مذهبة رئيسها. وفي هذا ما يتعارض مع المصلحة الاكاديمية بالمطلق. إن ضرورة خضوعها لهذا الشرط لا يمكن الا ان يأتي على حساب الكفاءة، المفروض ان تكون فوق الشبهات.
في هذه الجامعة، ممنوع الاستماع الى فيروز، ومسموح الاشتباك بالأسلحة، بين مَن وضع يده على الجامعة كأنها جائزة ترضية مع انقلاب المعايير اثر انتهاء الحرب الاهلية، وبين مَن يعتبر ان فائض السلاح لديه يمنحه الحق في طهي الهريسة في حرمها، او يصادرها عندما يريد.
في هذه الجامعة، كلّ فرع له لونه المذهبي الرافض للآخر، استاذاً أكان أم طالباً، لأن على اللبنانين التزام حظائرهم المذهبية. وما دام الفرع الذي انتمي اليه بخير، فلتحصد الريح الفروع الأخرى.
مع هذا، يفتخرون ويكابرون، وهم يتجنبون انتقاد الفساد علناً، لتبقى الانتقادات همساً. وهم يعرفون ان قاعدة الهرم ليست أفضل من قمته. من يقترب قليلاً، يلمس لمس اليد كل الفساد.
المؤسف في الافتخار انه يوحي بالخوف. قمة الخطر هي عندما يتجنب أستاذ جامعي أن يتحدث عن فساد حوله، حتى لا يتعرض لمساءلة تهدد عمله. لذا الصمت أفضل.
زيادةً في التماس الرضا، فليكن الفخر.
sanaa.aljack@gmail.com