إستماع
Getting your Trinity Audio player ready...
|
لسورية تاريخ حضاري عريق، فقد تعاقبت عليها حضارات متعدّدة منذ أقدم العصور، ما أعطى الشعب السوري خلفية ثقافية غنية. لا تدل على ذلك فحسب الآثار الباقية ليومنا من هذه الحضارات، ولكن أيضًا الموروث الثقافي المتراكم عبر العصور، الذي ما زال ينتج أدبًا وفنًّا وعلمًا وشعرًا وفلسفة راقية المستوى.
يستحق الشعب السوري العظيم أن يعيش بأمان في دولة تحترم حقوقه، يشارك فيها في صنع قراره المستقل، ويتفيّأ تحت ظلها الأمان والاستقرار والازدهار، فلا تضيع تضحياته سدى، ويصبح لمقتل أكثر من نصف مليون سوري في الأزمة التي تعيشها سورية اليوم بعض المعنى، لأن أحدًا لا يستطيع التعويض الكامل لما شهده السوريون من قتل وتهجير وتشريد خلال العقد الماضي. في منطوق السياسة، لا تحظى هذه الاعتبارات بما تستحق من الاهتمام، فعودة سورية إلى الجامعة العربية لا علاقة وثيقة لها بالديمقراطية أو التشاركية أو احترام حقوق الإنسان، ولا علاقة لها أيضًا بمسؤولية النظام السوري، مهما تباينت المواقف حول درجتها، عمّا حل بالشعب السوري الذي أصبح أكثر من نصفه إما لاجئًا أو نازحًا أو مقتولاً.
تتركّز المصالح الإقليمية اليوم خلف إعادة سورية حول أمور أخرى، أهمها موضوع اللاجئين السوريين في المنطقة، وإمكانية إعادتهم إلى بلادهم، وإيقاف تهريب المخدرات وحبوب الكبتاغون إلى دول الجوار، والخوف من هيمنة الجماعات الإسلامية المتشدّدة على البلاد، إن سقط النظام السوري، والحد من تأثير الجماعات المسلحة الإيرانية، خاصةً في جنوب البلاد. تبعًا
لذلك، يتبع عددٌ من الدول العربية سياسة الخطوة خطوة نحو سورية، بمعنى أن كل خطوة إيجابية من قبل سورية في المواضيع المذكورة أعلاه ستتبعها خطوة إيجابية مقابلة من بعض الدول العربية على الأقل، في تجاهل شبه تام لعملية سياسية تؤمن بمشاركة كل المكونات السورية في تحديد مستقبل البلاد، وهو ما كانت هذه الدول نفسها تطالب به في السابق.
ولكن هذه المصالح الإقليمية اليوم تصطدم بعقبات عدة. فالممارسة التاريخية للنظام السوري في العقود الماضية تظهر بوضوح نزعة إيديولوجية لا تؤمن بالضرورة بالمرونة والخطوات المتقابلة. ففي موضوع اللاجئين مثلًا، فإن قرارات الأمم المتحدة ذات الصلة، وبالأخص البروتوكول المتعلق باللاجئين للعام 1951، تحرم العودة غير الطوعية للاجئين، ما يتطلب التعاون السوري في هذا المجال ورغبة اللاجئين أنفسهم في العودة، إلا أن الاستعداد السوري لتسهيل هذه العودة مشكوك فيه، فالنظام السوري لا يرغب في عودة اللاجئين الذين يتبنّى معظمهم مواقف معارضة له، كما تظهر استطلاعات الرأي كافة حول ذلك. كذلك، ستظهر أي عودة مدى الدمار الذي حل بممتلكاتهم، ومدى نقص الخدمات الأساسية، ما سيجعلهم أكثر تشدّدًا تجاه النظام. لذا، فإن محاولة دول الجوار إقناع النظام السوري بقبول عودة أعداد كبيرة من اللاجئين تعترضها عقبات سياسية واقتصادية وخدمية كبيرة.
ولا بدّ من الإشارة إلى أن المجتمع الدولي ليس متحمّسًا لإعادة إعمار سورية في ظل الوضع القائم، هذا إن كان ثمة اعتقاد بأن ذلك سيشكل حافزًا لعودة اللاجئين. لا ينطبق ذلك على الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي والبنك الدولي وصندوق النقد الدولي والدول الغربية فحسب، بل أيضًا على روسيا التي لا تملك الموارد الكافية خاصةً بعد حربها مع أوكرانيا، والسعودية المنشغلة بتنميتها الاقتصادية الداخلية، وإيران التي تعطي سورية جلّ ما تستطيع ضمن حصار دولي خانق عليها، والصين التي تملك الموارد، ولكن لا تملك الرغبة في ضخ أي أموال في ظل عدم الاستقرار السياسي لسورية.
يجلب تهريب المخدرات والكبتاغون لسورية اليوم مبالغ هائلة تُقدَّر بعشرات المليارات من الدولارات حتى الآن، ولذا فإن استعداد سورية اليوم للتجاوب الجاد مع متطلبات دول الجوار لوقف التهريب ينتابه الكثير من الشكوك. وقد أُجبر الأردن على القيام بعمليات عسكرية كثيرة داخل سورية للحد من التهريب بعد عدم إظهار الجدية المطلوبة من قبل الدولة السورية لكبح جماح هذه العمليات، حتى لا نقول أكثر من هذا.
هل ستقبل سورية بالحد من نشاط الجماعات الإيرانية المسلحة، خاصة في جنوب البلاد مع الحدود الأردنية؟ وهل يستطيع النظام السوري إملاء شروطه على إيران، وهو المعتمد على وجودها العسكري اعتمادًا مكّنه من الاستمرار حتى الآن؟ وما مصلحته في ذلك؟ هل ستشمل سياسة الخطوة خطوة تقدّم النظام السوري خطوات تجاه المعارضة السورية غير المسلحة، أو المتشددة دينيًا؟ وهل ثمة أمل بحل سياسي يشمل المكونات السورية كافة، بعد أن غاب مثل هذا الحل على الرغم من عشر سنوات من محاولات الأمم المتحدة لتحقيقه، وذلك أساسًا بسبب رفض النظام السوري أي إشراك جدّي للمعارضة في الحكم؟
قد لا تكون الإجابة على كل هذه الأسئلة واضحة، ولكنها تؤشر جميعها إلى درجة التعقيد التي ترافق الجهود الإقليمية لحل الأزمة السورية. ما من شك أن إعادة سورية إلى الجامعة اليوم هي نتيجة مباشرة لحقيقة أن اعتبارات بعض الدول العربية دعم النظام السوري لكبح جماح إيران، أو الجماعات الدينية المتشدّدة تطغى على كل الاعتبارات المذكورة أعلاه، وليس لأي آمال بـ”مرونة” النظام في التجاوب مع مكونات شعبه. وليس من الواضح إن كانت الدول العربية ستخرق قوانين الأمم المتحدة كما القوانين الأميركية التي يفرضها المجتمع الدولي على سورية، أم أن إعادة سورية لشغل مقعدها في الجامعة لن تمتدّ لأكثر من ذلك. مع عودة سورية إلى الجامعة، يبقى الأمل أن تنتهي معاناة الشعب السوري، وألّا نتحدث عن “انتصارات” لا معنى لها، إن لم تشمل أيضًا انتصارًا للشعب السوري.