(الصورة: في ما يبدو أنه اجتماع للقيادة العسكرية الروسية في 2020، الثاني من اليمين هو “بريغوجين”، والخامس والسادس هما وزير الدفاع ثم رئيس الأركان الروسي!)
تُقدَّم “فاغنر” بطريقتين في الإعلام الغربي: إما مرتزقة روس هدفهم الربح، وإما شركة خدمات عسكرية خاصّة على طراز “بلاك ووتر” الأميركية، تعمل بشكل غير رسمي وبدون تنسيق مع الحكومة الروسية. هذه الضبابية التي تُحيط بالمجموعة تُتيح للروس الادّعاء بأنّ روسيا لا تضطلع بأي دور رسمي في بؤر الصراع الساخنة في الجنوب العالمي.
لكن، في الحقيقة” فإن مجموعة “فاغنر” التي نتعرض لها في محاولة للتعريف ببنيتها الهيكلة والتنظيمية، قد ثبت ارتباطها الرّسمي بموسكو، من خلال تحليل شبكة من العلاقات التي تجمع القائمين عليها بالاستخبارات الروسية والكرملين، وإثبات الفشل الأوروبي المزمن في التعامل مع حيلة موسكو.
“فاغنر” والمرتزقة
المرتزقة المنخرطون في صفوف “فاغنر” هم أفراد يشاركون في صراع عسكري على أراضٍ أجنبية مقابل المال أو أي نوع آخر، كما أنّهم لا يتحركون بدوافع من قبيل الاثنية، الأيديولوجيّة، الديانة، أو التوجهات السياسية، ولا يربطهم بالطرف الذي يحاربون نيابة عنه أكثر من الربح، ولا تجمعهم علاقة مواطنة بالدولة المشاركة على المسرح العمليّاتيّ.
إنّ الارتزاق، بتعريف الأمم المتحدة والعديد من الدول، نشاط غير قانوني، يحق للدول التي يتم على أراضيها ملاحقة المشاركين فيه بالاستناد إلى قوانينها الداخلية. علاوة على ذلك، فالمرتزقةُ مقاتلون غير شرعيين ولا يُمنحون، بالتالي، حقوق أسرى الحرب إذا ما تمّ أسرهم أثناء صراع دائر.
أما الشركات العسكرية الخاصّة فهي كيانات ربحية قانونية تُوفِّر خدمات يمكن أن تُوكَل في العادة إلى القوات المسلحة الرسمية لبلد ما، ويتراوح عمل هذه الشركات بين تحليل المعلومات الاستخبارية وتوفير الاستشارات والتكتيكات والخدمات الوقائية. لكن ثمة العديد من الأمثلة لحالات صراع مُسلَّح تدخلت فيها الشركات العسكرية الخاصّة بشكل مباشر، بالنيابة عن سلطة شرعية لدولة من الدول، بشروط وبنود يُحدِّدها عقد بين الطرفين.
جاءت فكرة تقنين الاستعانة بقوات خارجية من القطاع الخاص على يد “إيبين بارلو” (Eeben Barlow)، وهو عقيد في قوات دفاع جنوب أفريقيا كان قد أسّس الشركة العسكرية الخاصّة “إكزيكتيف آوت كامز” (Executive Outcomes) في أواخر الثمانينيات، ليُغيِّر جوهريا مفاهيم الشركات العسكرية الخاصة والارتزاق.
إذاً، “فاغنر” لا تندرج تحت فئة الارتزاق ولا تحت فئة “شركة عسكرية خاصّة”، كما يذهب أغلب الصحفيين! بل إنها النقيض من ذلك كليا! إذ من الواضح أنّ المجموعة أقرب ما تكون إلى أداة جيوسياسية يستخدمها الكرملين في تحقيق أهدافه وطموحه.
تُقدِّم مجموعة “فاغنر” خدماتها لكلٍّ من وزارة الخارجية ووزارة الدفاع الروسية. وكما سنرى لاحقا، فإنّ المجموعة تتحرّك في أماكن ترى روسيا أنّ مصالحها الإستراتيجية عُرضة للتهديد فيها أو في أماكن يرغب الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بتوسعة نطاق سيطرته للتأثير الروسي فيها وتدعيم الموقف الروسي على الساحة الدولية من خلالها ولفرض شروطه الجيوسياسية. إلى جانب هذا، فثمة مزاعم أنّ المجموعة تشارك في عمليات عسكرية تتحمّل هي مسؤولية تبعاتها في حال أرادت وزارة الدفاع الروسية التنصل من العواقب، ما يعني أن المجموعة تمنح روسيا حرّية الادّعاء بأنّ الأفراد المشاركين في عدد من الأحداث لا يتصرفون بالتنسيق مع أي جهة حكومية أو رسمية. لكن بقدر ما يبدو الأمر مخادعا، فإنه بكل تأكيد يخدم بعض الأهداف الرئيسية لروسيا.
الأمثلة التالية تبرز تصاعد دور فاغنر في العالم
-المثل الاول: الحقل النفطي في دير الزور السورية. عندما قام الطيران الأمريكي بقصف المجموعة بعد أن حاولت السيطرة على حقول النفط كان الرد الأمريكي قاسيًا جدا بعملية القصف. وقد أنكرت روسيا علاقتها بهم بالرغم من كل الفيديوهات التي كانت تشير علنا إلى أصوات الجرحى والمصابين باللغة الروسية السلافية! عندها، اعترفت روسيا بمقتل سبعة وعشرين مقاتل مرتزق، ولكن المواقع الإلكترونية المعارضة إشارت بان عدد قتلى فاغنر بلغت أكثر من ستمئة وثلاثين مقاتل من جنود المرتزقة المقاتلين في سورية اثناء توجه المرتزقة للسيطرة على منابع النفط في الحقول السورية بحسب المواقع الروسية المعارضة للدولة. لكن عدم التنسيق الروسي مع الامريكي عرّضهم لضربة قاسية، ولم تعلن روسيا عن ذلك.
- المثل الثاني، إبان الانتخابات البيلاروسية، والتي تم اعتقال ثلاثة وثلاثين مقاتلا روسيا كانوا قد وصلوا إلى مينسك استعدادًا لعمل عمل معين فتمّ اعتقالهم من قبل الرئيس البيلاروسي لوكاشنكو وفي أزمة الانتخابات أطلق سراحهم بعد أن طلبت السلطات الروسية إطلاقهم.
وقد أعلنوا أنهم يتوجهون نحو فنزويلا لأنهم يعملون هناك حراسًا في المنشآت النفطية وربما هي الوظيفة التي يتم الإعلان عنها لأجل الاستقطاب من الجنود والضباط في بلاد السلاف.
- المثل الثالث توجههم للقتال مجددًا الى أوكرانيا وتحديدًا في مدينتي “سوليدار” و”باخموت”، والخسائر الكبيرة التي تتلقاها المنظمة وخاصّة بعد أن انفضحت عملية تجنيد المساجين في السجون الروسية ودفعهم نحو الجبهة لشراء حريتهم لاحقا.
- المثل الرابع العلاقة غير الطيبة والانسجام بين الجيش والعصابة لجهة عدم إمدادها بالسلاح والذخائر بعد ان تطاولت على جنرالات الجيش مما دفع بريغوجين لتدوير الزوايا وفتح باب الوصول الى السلاح عن طريق السوق السوداء من دول متعددة بعد أن تمّت محاصرته من قبل قيادة الأركان وتركه لمصيره.
في “باخموت” اتضح دور المرتزقة الساعي للقفز فوق الجيش، ما عرّض المجموعة لحصار غير مباشر من الجيش الروسي، وعدم مدّها بالسلاح والذخائر. وكان الجيش يعاقب المجموعة بعد التطاول على جنرالاته، مما دفع بريغوجين بالذهاب بعيدًا لفتح طرق جديدة للحصول على السلاح من كوريا الشمالية وبعض الدول الأخرى. كما جاء بوثائق البنتاغون فإنّ “فاغنر” تحاول شراء سلاح من من تركيا بواسطة سماسرة سلاح، او بواسطة دولة ثالثة حيث عرض رئيس الانقلاب في مالي خدماته كي يكون الوجه العلنيب للصفقة. وبريغوجين يريد استخدام الاسواق السوداء للحصول على السلاح بواسطة المال ويحاول استخدام تركيا التي تربطها علاقة جيدة باوكرانيا وروسيا وتزود أوكرانيا بالسلاح. لكن الوثيقة كشفت المستور، وفشلت الصفقة ووضعت المنظمة ككيان على لائحة العقوبات الامريكية بالإضافة إلى بعض الشخصيات التي تعمل مع المنظمة في روسيا وفي الخارج.