وقائع لا ينفع فيها ومعها الاعتذار..!!

0

أراقبُ الاعتذارات العلنية التي ينشرهادعاة الصحوةالسعودية في منابر بلادهم الإعلامية، ويُعبّرون فيها عن ندمهم على ما أسموهالتشدد والتديّن الشكلي“.

ولا تعنيني السجالات التي تدور هناك، ولا أريد حتى التذكير بهم، أو ذكرهم بالاسم. كل ما في الأمر أن هؤلاء شكّلوا في يوم ما رأسالكومنترنالإسلامي، الذي أنجب القاعدة وداعش والإرهابيين والانتحاريين، وألحق ضرراً بعالم العرب والمسلمين لن تزول آثاره الكارثية في وقت قريب، فقد يحتاج الأمر قبل التعافي إلى جيلين أو أكثر.

لم يكونوا وحدهم، بطبيعة الحال، ولم يكن لديهم ما يكفي من الكفاءة الفكرية والخبرات الحركية، للاستيلاء على العالم العربي، لكن دفاتر الشيكات، ومفاتيح المنابر الإعلامية، كانت في أيديهم، بينما كان المصريون، والسوريون، والفلسطينيون، وغيرهم، جنودَ مشاة، وأقرب إلى الدُمى في مسرح للعرائس بحجم العالمين العربي والإسلامي.

ولم يكن لا هؤلاء، ولا جنود مشاتهم، على قدر من حُسن الإدارة، والمهارة، إلى حد يمكنهم من اقتحام مجتمعات عربية كثيرة، بل كانت سلطة الدولة، ومواردها، ومنابرها، لا في السعودية وحسب، ولكن في بلدان عربية كثيرة، أيضاً، مُجنّدة في خدمة مشروع الاقتحام. وكان بعض هؤلاء يحمل جوازات سفر دبلوماسية، ويحظى بمعاملة استثنائية دون أن يتولى، بالضرورة، مناصب رسمية.

ولا كانت، في سبعينيات القرن الماضي، النقلة الافتتاحية الأولى في مشروع الاقتحام سلمية قوامها المنطق، ومنطقها الهداية، بل كان العنف مكوّنا عضوياً من مكّوّناتها، كما الكراهية وضيق الأفق من سماتها. وهذا ما تجلى في ترويع السافرات بماء النار، والاعتداء علىالكفّارفي مدن عربية كثيرة، حتى في غزة المنكوبة والفقيرة.

ولا كان هذا كله شأناًعربياًواسلامياخالصاً، بل كان مجرّد نقلة صغيرة على رقعة شطرنج بحجم الكرة الأرضية، في هجوم، على روسيا السوفياتية، ومعسكرها الاشتراكي، أرادت له واشنطن وحلفاؤها أن يكون شاملاً وأخيراً، فالقومية العربية، في نظرها، عدوّة، لا لأن القومية سيئة أو جيّدة، بل لأنها في صيغتها العربية، ونزعتها الجمهورية واليسارية، وعلاقتها بالسوفيات، تهدد بتقويض النفوذ الإمبريالي في الشرق الأوسط.

لذا، لم يكن من قبيل الصدفة أن تتجلى في مشروع اقتحام العالم العربي، في تمثيلاته الوهابية والإخوانية، علامات فارقة فرضت عليه التشدد والتديّن الشكلي:

أولاً،أنظرة سلبية إلى القومية العربية ترجمتها الدعوة إلى، وتبني، قومية إسلامية عابرة للحدود والقوميات، وهذا ضروري على نحو خاص لأنه يلغي الفرق، في نظر العربي، بين فلسطين وأفغانستان، ويُسهم في تجريد أولاد الحرام العلمانيين في منظمة التحرير، واليسار العربي، من قاعدتهم الشعبية في العالم العربي.

ثانيا، غموض مُتعمّد بشأن المضمون الاجتماعي للمشروع، لذا غابت فيه وعنه مسألة المواطنة، والمساواة، وقضايا النساء، والعدالة الاجتماعية، ولم تحضر فيه بشكل واضح وصريح وفصيح سوى الملكية الخاصة، ومركزية الربح والتجارة بوصفها قيمة عُليا، ناهيك عن أن الفقر والغنى، كما الطبقات الاجتماعية، معطى سابق جرت عليه المقادير والأقدار.

ثالثاً، طرد قضايا الحريّات الجمعية والفردية، والعقد الاجتماعي، ونموذج الدولة الحديثة، والمصلحة القومية، والجغرافيا السياسية، من السياسة، وإلغاء الفرق بين حقلي السياسة والدين، وتعويض هذا كله بثنائيات عن الخير والشر، والكفر والإيمان، ودار الإسلام، ودار الحرب.

ولا يخفى على العاقل، بطبيعة الحال، أن تلك العلامات الفارقة في المضمون الأيديولوجي لمشروع الاقتحام وسمته بضيق الأفق، وحكمت عليه بالفقر المعرفي، وكراهية الثقافة الحديثة، بوصفها نتاج ما تراكم وتلاقح من خبرات ومُنجزات لا تنتمي إلى جماعة بعينها بل إلى البشرية كلها. فكانت النتيجة ما يُعبّر عنه المُعتذرون اليومبالتشدد والتديّن الشكلي“.

ولكن للتشدد والتدين الشكلي تسمية مختلفة، وأقرب إلى الواقع، صاغها الفرنسي أوليفييه روا في تعبيرالجهل المقدّس، الذي يستقل فيه الإيمان الديني عن مرجعياته الثقافية، وتجربته التاريخية، وخصوصيته القومية، واللغوية، والجغرافية، ليُختزل، بفعل هذا كله، في قناعات إيمانية مُجرّدة تعيش في واقع افتراضي بديل. وبالعودة إلى كتابات هؤلاء ستجد تجليات لا تُحصى لهذا كله. فهي فقيرة منطقياً ومعرفياً، مُستقلّة عن زمانها ومكانها، ومسكونة بكل ألوان الطيف المُحتملة للعنف.

ومع ذلك، ولذلك، أحد هؤلاء نشر عشرات الكتب، ويُقال إن واحداً منها باع عشرةملاييننسخة، كما قدّم البرامج التلفزيونية، وألقىمحاضراتفي مشارق الأرض ومغاربها، ويتابعالملايينتغريداته، ويدعو لهالملايينبالسلامة.

ومع هذا كله، لم يتورع في مناسبتين، على الأقل، عن السطو على كتب وكتابات آخرين، بشهادةالقضاءالسعودي نفسه، الذي أدانه بسرقة  كتابين وحكم عليه بدفع تعويض للمتضررين. وفي الحالتين لم ينل حكم القضاء من مكانته، ولا انفض عنهالملايين“. وفي سير الآخرين، من الزملاء فيالكومنترن، أيضاً، عشرات الكتب، والبرامج التلفزيونية، والمحاضرات، والجولات الدعوية، وملايينالمتابعين، إضافة إلى شهادات الدكتوراه، طبعاً.

واليوم، يعتذر هؤلاء، عن التشدد والتديّن الشكلي، على طريقةغلطنا وعدنا إلى الطريق القويم، وكأن ما حدث في العالمين العربي والإسلامي، وفي العالم، كان حادثة سيّارة، وقعت فيها بعض الإصابات لأن السائق أخطأ التقدير. وماذا عن الدماء التي حرّضوا على إراقتها في مشارق الأرض ومغاربها؟ ماذا عن الإسهام في تجهيل وغسل أدمغة جيلين من العرب والمسلمين؟ وماذا عن المجازر المروّعة في العراق، وسورية، وسيناء، وليبيا، ونيويورك، ومدريد، وباريس، ولندن؟ ماذا عن مجتمعات نزفت، وحيوات ضاعت، وآمال أُجهضت؟

ثمة وقائع لا ينفع فيها ومعها الاعتذار، وفي القلب منها ما أسمته حنّا أرندتتفاهة الشر“.

Leave a Reply

0 Comments
Inline Feedbacks
View all comments
Share.

Discover more from Middle East Transparent

Subscribe now to keep reading and get access to the full archive.

Continue reading