بعد أن عاد إلى بلاده من زيارته الرسمية الأولى إلى بكين منذ وصوله إلى السلطة في كوالالمبور في نوفمبر 2022، وهو منتشي بحصوله على تعهدات استثمارية من العملاق الصيني بقيمة 39 مليار دولار، قوبل رئيس الحكومة الماليزية أنور إبراهيم باحتجاجات لاذعة واتهم من قبل سلفه رئيس الوزراء السابق وزعيم المعارضة الحالي محيي الدين ياسين بأنه فرط في سيادة الوطن ومصالحه مقابل حفنة من الاستثمارات. في إشارة إلى عدم إثارة إبراهيم لقضية الجزر والمياه المتنازع عليها خلال محادثاته في بكين، وقيامه بدلا من ذلك بكيل المديح لنظيره الصيني “شي جينبينغ” ووصف الأخير بـ”صاحب الرؤية الذي أعطى بصيصا من الأمل للعالم والبشرية”، بل واقتراح فكرة التنقيب المشترك عن الطاقة في المياه محل النزاع.
وسرعان ما جاء الرد من إبراهيم ومعسكره بالقول أن تصريحات رئيس الوزراء أسيء تفسيرها وأن المعارضة تستغل قضية جيوسياسية معقدة من أجل تسجيل النقاط ليس إلا.
والحقيقة ان التجاذبات السياسية الداخلية في ماليزيا جعلت قضية العلاقة مع بكين تتصدر النقاشات والمماحكات اليومية، واتخذت من النزاعات البحرية معها موضوعا رئيسيا.
والمعروف أن ماليزيا كانت من أوائل الدول الاقليمية التي طبّعت علاقاتها مع الصين الشيوعية زمن مؤسسها ماو تسي تونغ، ثم راحت تتصرف بواقعية حيال نزاعاتها البحرية مع بكين مستخدمة الدبلوماسية الهادئة ورافضة التصعيد، ما جعل شريكاتها في رابط آسيان، من تلك التي لها نفس النزاعات السيادية مع بكين، تصفها بوكيلة الصين ومحاميتها في الرابطة، خصوصا في ظل تبني الحكومة الماليزية آنذاك مواقف رافضة للتحالفات العسكرية الغربية في المنطقة.
وإذا ما تفحصنا العلاقات الماليزية الصينية قبل وصول ابراهيم إلى سدة الزعامة، نجد أن كل أسلافه ممن اختلف معهم وناصبهم العداء انتهجوا سياسات مهادنة مع الصين، بل سعوا إلى كسب ود بكين لأسباب اقتصادية وتجارية واستثمارية، إلى درجة أنهم تبنوا موقفا متناغما مع موقف بكين حيال المشروع الاسترالي البريطاني الامريكي لتزويد كانبرا بغواصات تعمل بالطاقة النووية (صفقة AUKUS).
فعلى سبيل المثال سجلت التجارة البينية بين البلدين على مدى السنوات الـ 14 الماضية ارتفاعات متتالية حتى بلغت قيمتها نحو 203 مليار دولار في العام الماضي، وفي ظل الإدارة المضطربة للزعيم الماليزي الأسبق نجيب رزاق بلغت الشراكة الإستراتيجية بين البلدين ذروتها، خصوصا مع ترحيب حكومة رزاق بمبادرة الحزام والطريق الصينية وانخراطها فيها بحماس. وبعد عودة مهاتير محمد إلى السلطة في عام 2018 خلفا لرزاق تعرضت تلك الشراكة لإنتكاسة مؤقتة، بسبب مواقف مهاتير الشعبوية المنتقدة لمبادرة الحزام والطريق، لكنها سرعان ما عادت إلى صلابتها بعد أن حصل الزعيم الماليزي العجوز على تطمينات وتنازلات صينية خلال زيارة قام بها إلى بكين.
وهكذا يمكن القول أن إبراهيم لم يخرج عن النهج الذي سار عليه أسلافه حيال التعامل مع العملاق الصيني، وحق له أن يتفاخر بأنه تمكن من الحصول على استثمارات صينية مضمونة أعلى بكثير مما حصل عليه زعماء البلاد السابقين، وإنْ صاحب انجازه هذا أقاويل واتهامات من قبيل أنه يسعى من وراء تقربه من الصين إلى محو الإنطباع الذي خلقه غريمه مهاتير في أذهان قطاع من الماليزيين بأنه سياسي موال للغرب.
مما لا شك فيه أن ابراهيم يسعى جاهدا إلى اخراج بلاده من تراجعاتها الاقتصادية والمعيشية خلال السنوات القليلة الماضية، التي تسبب فيها عدم استقرار منظومة الحكم وتداعيات جائحة كورونا، وذلك بالاعتماد على دعم العملاق الصيني. وهو في سعيه هذا يحاول أن يخلد إسمه في تاريخ بلاده كزعيم كفوء وصاحب رؤية من بعد سنوات من الاعتقال والمهانة والتهم الكيدية. لكن محاولته هذه تصطدم بوجود نزعة قومية، لاسيما في صفوف ناخبيه من ذوي العرق الملايوي، رافضة لتقديم أي تنازلات للصينيين حول المياه والجزر المتنازع عليها، ومطالبة بأن تواصل حكومة ابراهيم مساعي سابقة لانتزاع حقوق البلاد السيادية على نحو ما تفعله الفلبين وفيتنام. فما هي تلك المساعي؟
يذكر أن ماليزيا قدمت في أواخر 2019 طلبا إلى لجنة الأمم المتحدة للجرف القاري تطعن فيه بمطالبات بكين بالأجزاء الجنوبية من بحر الصين الجنوبي، بل وصف وزير خارجيتها آنذاك سيف الدين عبدالله المطالب الصينية بأنها بلا سند قانوني، وذهب إلى حد التهديد باللجوء إلى محكمة العدل الدولية على غرار ما فعلته الفلبين.
وبعد اشهر من ذلك قامت ماليزيا بأنشطة استكشاف بترولية أحادية في المياه المتنازع عليها من خلال شركة بتروناس المملوكة للدولة، متحدية الصين ومسترشدة بما فعلته فيتنام.
وفي عام 2020 قدمت حكومة رئيس الوزراء السابق إسماعيل صبري يعقوب مذكرة احتجاج للسفير الصيني في كوالالمبور على وجود أنشطة صينية بحرية قبالة سواحلها في ولايتي صباح وسراواك، متهمة بكين بانتهاك اتفاقية الامم المتحدة لقانون البحار لعام 1982. وفي العام نفسه اتهمت ماليزيا سلاح الجو الصيني بانتهاك مجالها الجوي، معلنة أن علاقاتها الودية مع الصين لا تعني التفريط بسيادة البلاد وامنها القومي. وكنتيجة لهذه التوترات، قررت ماليزيا في عام 2021 الانضمام إلى عملية التعاون والتدريب في جنوب شرق آسيا (SEACAT) بقيادة واشنطن، ثم قامت بمناورات جوية مشتركة مع الولايات المتحدة في بحر الصين الجنوبي. ومن هنا فإن تودد ابراهيم للصين واقتراحه عملية تنقيب مشتركة في مياه يعتبرها الماليزيون حقا لهم، وضع الرجل في فوهة المدفع.
*أستاذ العلاقات الدولية المتخصص في الشأن الآسيوي