جبور الدويهي: أتمتّع بالسرد ورواية الأخبار إرثي من والدتي

0

بيروت – من زهرة مرعي

العالم موجود ونحن لا نخترعه… والكاتب ينظّم هذا العالم وهذا ما يُعرف أو يُسمى بالخيال«طُبع في بيروت»… عنوان جذّاب للمهتمين باسم صاحب الرواية وما يُنتِجه من أدب، وكذلك لكل حشري تربطه نوستالجيا بالمدينة المثيرة وأثرها في عالم الحرف. هو الروائي جبور دويهي، يثابر في تشبيك الصلات بين الرواية والتاريخ، بين الرواية والجغرافيا ومع الاجتماع بطبيعة الحال. «طبع في بيروت» الصادرة حديثاً عن دار الساقي من 222 صفحة تتنزّه عبر التاريخ من السلطنة العثمانية وصولاً إلى الحرب في سورية، وما تخلل تلك المساحة الزمنية الشاسعة من أحداث.

مطبعة «آل كرم» محور تلك الأحداث، وتحتضن في آن حياة البشر وذاكرة المكان الصغير والأكبر الذي هو لبنان ومن ثم محيطه. مع جبور دويهي، الذي وصلت ثلاث من رواياته إلى القائمة القصيرة في جائزة بوكر العربية، كان هذا الحوار حول جديده وأسلوبه الروائي:

karam

  • «طبع في بيروت» جديد رواياتك التي تجمع التاريخ بالجغرافيا مع حياة الناس أي المجتمع بما هو سرديات وبما هو سياسة. كيف تقرأ في جدلية العلاقة بين المطبعة والأحداث التي ملأتْ روايتك؟
  • ـ راودتْني فكرة الرواية لدى قراءتي خبر انتحار صاحب مطبعة. هي اللمعة الأولى عن مطبعة في بيروت. حادثٌ عنى لي اختلال نظام طالما تغنينا به. لم أتوقف كثيراً عند أسبابِ حادث قد لا يكون مرتبطاً بالطباعة. بل رحتُ إلى الطباعة وتاريخ لبنان، والحرفة وتزوير العملات وغيرها. استمتعتُ خلال الكتابة وآمل أن يستمتع القارئ. لستُ من محبّذي الاستعارات الأدبية، إنما بسهولة يمكن القول إن المطبعة هي المدينة، ومن خلالها يمرّ التاريخ. بعضٌ من تاريخ بيروت موجود في الرواية، فمروره عبر المطبعة متاح. من طباعة الشعر إلى طباعة الدستور، مصادرة المنشورات، تزوير العملات وغيره مما تعكسه المطبعة. ومن الطبيعي أن تكون للمدينة حياة أخرى خارج حدود المطبعة، لكن للمطبعة أن تعكس جزءاً كبيراً من هذه الحياة كونها من عمر لبنان الكبير.

• إلى سخاء الطباعة في لبنان، ومطبعة آل كرم نموذج لمرافقتها مراحل مفصلية من تاريخ لبنان الماضي والحديث، لماذا بقي فريد أبو شعر حاملاً مخطوطته الممنوع عليه طبعها؟ حتى أنه أضاعها؟

ـ الجانب الظاهر في عدم طباعة المخطوطة هو أن الناشرين حالياً يبحثون عن الكتب ذات المردود التجاري. مخطوطة تتضمّن تأملات في الحياة لن تغري أصحاب المطابع. لم أشر فقط لأزمة الطباعة بل لأزمة الكتابة نفسها. يعتقد ابو شعر أن كتابه يتضمن كلاماً مطلقاً، ونزوله على الناس سيكون تأثيره كبيراً كما لو أنه نبوءة. يشبه ابو شعر ما قاله جبران «أبناؤكم ليسوا لكم… أبناؤكم أبناء الحياة». هو يعتقد أنه يحمل الكلام وسلطة الكلام، إنما القضية في أنّ أحداً لا يقرأ ولا يسمع. إنها أزمة الخطاب الذي يقول بتغيير العالم بالكلام، وهذا ما رغبتُ في تظهيره من خلال شخص أبو شعر.

• لماذا اخترتَ المرأة الجميلة زوجة صاحب المطبعة لخطف تلك المخطوطة؟

ـ لستُ أدري. ربما لأنها امرأة غريبة الأطوار، وتحوم حول مَن يشبهها. وجدتْ في ابو شعر واكتفائه القوي بذاته ما أثار حشريتها. قرأتْه ولم تفهم ولهذا بقيتْ على إعجابها. لا أفسر دوافع شخصيات الرواية، فالأسلوب النفسي التحليلي لا أمارسه في كتاباتي. الفعل في روايتي هو الذي يعبّر.

• هل لنا الإقرار بأن مطبعة آل كرم حاضنة لتاريخ المدينة وناسها ومؤتمنة عليه؟

ـ نعم. بشكل ما مرّ التاريخ عبرها، ويخشى أن يكون مصيرها شبيهاً بالمصير العام. ثمة جدل حول مصيرها، فالمطبعة احترقت وفي الوقت عينه قُبض ثمنها من شركة التأمين. وهذا ليس سهلاً. جرّبتُ العودة إلى تاريخ المطبعة وتاريخ بيروت معاً. في الرواية أجواء تاريخ عبر السرد وعبر أشخاص يحملون معهم هذا التاريخ.

• كيف تجمع التاريخ وكيف تتحقّق منه؟

ـ في كتب سابقة لي عن بلدتي «زغرتا»، المرويات الشفوية هي الأساس. مع بيروت لا بد من القراءة. وجدتُ الحرب العالمية الأولى في بعض المراسلات، وفي ما كتبه ديبلوماسي مرّ من هنا، وما كُتب عن الدستور اللبناني. أما الحرب الأهلية منذ العام 1975 فقد عايشناها، وكُتب عنها الكثير في حين ان ما سبقها استلزم بحثاً. أتمنى الأمانة، فما من سبب يدعو لتغيير الوقائع إلا نادراً.

• تميّزت روايتك بالتداخل السلس جداً بين حقب من الزمن. هل نقول إن هذا النوع من الأدب هو حرفتك بعد طبع مجمل رواياتك تقريباً؟

ـ أتنزه عبر الزمن حيناً، وفي آخر أُحجِم. في رواية «شريد المنازل» كنت حيال سيرة شاب من ولادته حتى وفاته. عموماً أهوى الدخول والخروج، فالتلاعب بالزمن يغني النص ويؤدي لمسافة. يفتح ابواباً جديدة ويوجِد التشويق. من الضروري ضبط الأمر ليبقى القارئ على بيّنة من طريقه، وليلتقط أنفاسه.

• بقراءة «طُبع في بيروت» نجد تلازماً في مسارات عدة بين لبنان وسورية على وجه الخصوص وغيرها من الدول العربية. وفي ص 55 فؤاد كرم ذو الأصل السوري صفّ كلمات الدستور اللبناني الأول بيده. هل هي كلمات الصدفة؟

ـ لا، ليست صدفة. كل مَن خاض في تاريخ بيروت، ومَن عمل من تجار مجوهرات، وتجار جملة، وكتّاب يعرفون أن دفعة من المواطنين في سورية أتوا الى لبنان قبل أكثر من قرن، وبينهم مَن أكمل الطريق إلى مصر، وعاد بعضهم إلى بيروت. إنها مكوّنات المدينة، وليس لنا التغاضي عنها. في ذلك الحين كانت الكيانات تتكوّن وكان سهلاً أن يَبلغ مواطن سوري لبنان ويتسجل في نفوسه، ويبدّل اسمه كذلك. العائلات التي أتت من حلب وحمص كثيرة في بيروت وتعرف جذورها، ولا يزال لها أقارب هناك.

• جمعتَ تاريخاً طويلاً يعود لبدايات القرن الماضي في صفحات بحدود الـ 200 فبلغتَ اغتيال الحريري والحرب المدمّرة في سورية. كم يمتعك سرد الأحداث بهذه الطريقة؟

ـ وضعتُ اليد حيث يجب. لديّ متعة السرد، أفرح بكتابة الأخبار. هذا ما ورثتُه في الأساس عن والدتي. أسمع الكثير من الناس يخبرون الأخبار، كبرتُ وتعلمتُ أولاً الفرنسية، ومن ثم العربية وكانت بداية الكتابة مع القصص القصيرة بعنوان «الموت بين الأهل نُعاس». وهي تشبه القصص التي يمكن أن تروى في أي قرية أو أي طفولة. دون مشاعر اللذة والرغبة بالكتابة لما تابعتُ الطريق. نعم تفرحني الكتابة.

• هل لنا بالسؤال عن الهيكلية السردية التي تضعها لكل رواية جديدة تكون بصددها؟

ـ لا أعرف كيف تركب روايتي. أنطلق من خلال مشهدٍ وأبدأ بالتشييد حوله. وهذا المشهد يترك أثره في البنيان اللاحق للرواية. بدأتُ مع رجل يتأبط أوراقه ويجول على الناشرين العدائيين. هي جولة في بيروت. عُرض على الرجل العمل في التصحيح فوافق. وكان فصل من ألف كلمة في الرواية. فيما بعد، قررتُ ألا تزيد كلمات الفصل عن الأول. قراري كان بعدد فصول محدد وبكلمات ترواح بين ألف وألف ومئة كلمة لكل منها. هكذا تكوّن أول مشهد وفرض نفسه عليّ وعلى الرواية.

• هل من رواية تعلن العصيان في مكان ما؟

ـ مع الممارسة والكتابة اليومية، يضعف العصيان. وعندها يعطي الكاتب قدراته. مَن يواجه معضلة الصفحة البيضاء فهو ليس جاهزاً للكتابة. منذ صدور «طُبع في بيروت» لم أكتب، فهل أنا أمام الصفحة البيضاء؟ بل أنا في مرحلة التفكير. وعندما أضع الجملة الأولى أنطلق. أستمرّ لسنة تقريباً في التفكير. في رأيي أن الأفكار محكومة بما هو فيزيائي. أحتاج لحدود سنة أمتلئ خلالها بالأفكار، تفيض فأكتب.

• نقرأ تاريخاً في روايتك. والسؤال عن حجم عامل الخيال في مخطوطاتك؟

ـ الخيال هو في السرد والأخبار وتوليفها. العالم موجود ونحن لا نخترعه. الكاتب ينظم هذا العالم وهذا ما يُعرف أو يُسمى بالخيال.

• أمضيتَ ردحاً من الزمن في بيروت الحلم الذي راود كثيرين على حين غرّة. هل أهديتَها «طبع في بيروت» بحيث انها تشكل الحيز المكاني لكافة الأحداث تقريباً؟

ـ بيروت التي عشتها سبق وكتبتها في رواية «شريد المنازل». في هذا الكتاب كتبتُ شبابنا، يساريتنا وطيْشنا. لم نكن نرى شيئاً. في «طبع في بيروت» تلميح إلى بدء الحرب وفورة الطباعة.

“الرأي”

اترك رد

0 تعليقات
Inline Feedbacks
View all comments
Share.

اكتشاف المزيد من Middle East Transparent

اشترك الآن للاستمرار في القراءة والحصول على حق الوصول إلى الأرشيف الكامل.

Continue reading