(الصورة: “صادق قطب زاده”، مواليد 1939، أول وزير خارجية بعد الثورة، عارض ولاية الفقية وأُعدِمَ في 15 سبتمبر 1982 في سجن إيفين بطهران بتهمة محاولة اغتيال الخميني)
نستكمل، اليوم، ما سبق من تحليل بشأن مركزية العام 1979 في تاريخ الشرق الأوسط والعالم، واستحالة فهم ما وقع في الإقليم، على مدار عقود تلت، وما يقع اليوم، دون العودة إلى تلك اللحظة الحاسمة.
توقفنا في ختام معالجة الثلاثاء الماضي عند لاهوت التحرير، الذي اكتسب جاذبية في أوساط الطلاّب، واليسار الجديد، في مناطق مختلفة مما عُرف في لغة زمن مضى بالعالم الثالث. وأشرنا إلى ما كان لعلي شريعتي من تأثير على جيل كامل من الإيرانيين. ومن المفيد، في سياق كهذا، التذكير بمحاولة المفكّر المصري حسن حنفي بلورة تصوّرات نظرية لمشروع “اليسار الإسلامي” حسب تعبيره.
ومَنْ عاش تلك الأيام، أو لديه ما يكفي من الوقت للقراءة، سيكتشف ولع اليسار الفلسطيني والعربي، عموماً، بأبي ذر الغفاري، وعز الدين القسّام، والحسين، والقرامطة، مع تركيز خاص (وخاطئ طبعاً) على الأبعاد الطبقية لسياساتهم، وثوراتهم، التي صارت تقبل التفسير بلغة وأدوات “العلم” الماركسي.
على أي حال، لا فائدة من التذكير بفشل شريعتي وحنفي، ولا بضلال تأويلات مُفتعلة، بنية طيّبة فعلاً، على يد مغفلين مفيدين (بتعبير طيب الذكر لينين) كانوا في واد، و”الإسلام” في واد آخر. فما يعنينا أن في هذا كله ما يُفسّر تعقيدات العملية الثورية، وطبيعة القوى المشاركة، والشعارات المرفوعة.
سيزعم اليمين الديني الإيراني بعد تصفية قوى وشخصيات قومية ويسارية كانت طليعة الثورة، ومحرّكها الرئيس، وصاحبة القسط الأكبر في انتاج رأسمالها الرمزي لغة، وتعبئة ودعاية، أن الثورة كانت “إسلامية”.
وهذا ما لا ينبغي التسليم به. فالثورة لم تصبح “إسلامية” بالمعنى الذي وجد تعبيره في استيلاء اليمين الديني على الحكم، ونظام ولاية الفقيه، دون مجزرة أحكام الإعدام، التي أصدرها المدعي العام صادق خلخالي، وقضى بموجبها على شريحة واسعة من نخبة الدولة والمجتمع. تحضرني، في هذه المناسبة، عبارة جاءت على لسان المذكور مفادها أنه يخشى من عقاب الله، لأنه لم يعدم ما يكفي من أعداء الثورة.
لم تصبح الثورة “إسلامية”، كما أسلفنا، دون التخلّص، بالقتل والإبعاد والنفي، من شخصيات تصدّرت المشهد السياسي بعد رحيل الشاه، وكان في وسعها إنشاء نظام من نوع آخر: أبو الحسن بني صدر، مهدي بازركان، شهبور باختيار، وصادق قطب زادة، ناهيك عن قادة وكوادر حزب توده، ومجاهدي وفدائيي خلق، وما لا يحصى من كوادر الحلقات الطلابية، والنقابات المهنية.
كان بين هؤلاء رفاق وورثة محمد مصدّق صاحب مشروع تأميم النفط، الذي أطاح به الأميركيون في عام 1953، وكذلك دعاة لاهوت التحرير، مع أطياف وتأويلات يسارية مختلفة. وبعض هؤلاء كانوا في الدائرة السياسية والإعلامية الضيقة للخميني في منفاه الباريسي، وأسهموا على امتداد أشهر حاسمة وطويلة، منذ اندلاع الثورة، وحتى رحيل الشاه وسقوط النظام، في رسم صورته وتقديمها للعالم، وقطاعات واسعة من الإيرانيين أنفسهم.
والمهم، في هذا الشأن (وهذا تفصيل بالغ الأهمية) أن الثورة صارت “إسلامية” لأن الأميركيين أرادوا لها أن تكون “إسلامية”، فلم يكن في وسع الليبرالية الأميركية، في زمن الحرب الباردة، استيعاب وتفسير حدث من عيار سقوط قلعة من قلاع السلام الأميركي في الشرق الأوسط دون الإيحاء بوجود وصعود قوى ظلامية ذات نزعة تدميرية عالية، تطلع من أعماق مجهولة وغامضة.
ولن نجد، في الواقع، تحليلاً يُفسِّر فرضيتي هذه أفضل من “تغطية الإسلام” لإدوارد سعيد، الذي أثار انتباهه، على نحو خاص، تركيز وسائل الإعلام الأميركية على “الإسلام” في الثورة الإيرانية، واستعانتها، كالعادة، بخبراء وأكاديميين (تعوزهم الكفاءة والمعرفة) لتعزيز هذه الدلالة، وسلبياتها بالمعنى الثقافي والسياسي، وخطرها على مصالح الأميركيين. يرصد سعيد هذا الميل قبل أزمة الرهائن (أواخر 1979)، وكيف تعزز بطريقة عُصابية تماماً بعدها.
كان في زمن “تغطية الإسلام”، وحتى الآن، إمكانية لتفسير ملاحظة سعيد بإنشاء حالة من التضاد بين أنوار العالم الحر، وظلام ما وراء الستار الحديدي. وبالتالي، فمن تحصيل الحاصل أن مَنْ يُخرج نظاماً من عالم الأنوار إلى عالم الظلام يأتي، بالضرورة، من كهوف تاريخية واجتماعية وسياسية ظلامية ومظلمة وبعيدة. وهذه مرافعة تقليدية، ويمكن توظيفها في نقد ونقض الديمقراطيات الأميركية والغربية، وفضح تحالفها مع أنظمة هي الأكثر ظلماً وظلاماً وظلامية في الكون.
ومع ذلك، ليس في التحليل النفسي ـ الثقافي، على أهميته، ما يُشفي الغليل، إذ يمكن للتحليل السياسي تعميق دلالة تركيز الأميركيين على “الإسلام” في الثورة الإسلامية. فالكلام عن الثورة الإيرانية يفرض على الأميركيين، إن كانوا صادقين، الاعتراف بالجانب المُظلم لنظام الشاه: الدكتاتورية، وحكم المخابرات، التفاوت الطبقي، تفشي الظلم، وتكميم الأفواه، ومصادرة الحريات الفردية والعامة. وبالقدر نفسه، فإن الكلام عن الثورة الإيرانية يعني الاعتراف بأمرين: إسقاط حكومة مصدّق بمؤامرة أميركية ـ بريطانية، وإعادة الشاه من المنفى إلى سدة الحكم، وحماية نظامه.
في سياق كهذا، فقط، نفهم لماذا يبدو التركيز على “الإسلامي”، في الثورة الإيرانية، بالنسبة للأميركيين، أقل ضرراً من تأمل الوجه التآمري والمُخادع في المرآة، وممارسة النقد الذاتي، والاعتراف بوجود دوافع سياسية وطبقية موضوعية، ومنطقية تماماً، للثورة. ففي اعتراف كهذا ما يعني صب الماء في طاحونة الماركسيين. وهذا صعب المنال.
وصلنا حتى الآن إلى كيف التقت مصلحة الموالي والأميركيين، لأسباب مختلفة، في نقطة التركيز على، والاستفادة من، “الإسلامي” في الثورة الإيرانية. سنعرّج مع العُصاب الأميركي على أفغانستان، والسعوديين والوهابيين، ومعاهدة السلام المصرية الإسرائيلية، وإنشاء نظام للأمن الإقليمي يكفل حماية المعاهدة، وضمان تفوّق إسرائيل. وهذا مشوار طويل نمشيه معاً من أسبوع إلى آخر.
لو كنت حياً في ذلك الصباح..!!
شكرا..مهمجدا ..بانتظار المزيدHazaml