يوصف بالارهاب عادة اعمالُ العنف التي يقوم بها افراد او مجموعات ضد مواطني بلدانهم او بلدان اخرى لتحقيق اهداف سياسية او اجتماعية او دينية. ويرى البعض ان ذلك يشمل ايضا ما تقوم به انظمة ديكتاتورية من اعمال عنف لقمع معارضيها او لارهابهم واخضاعهم لسلطتها. فيما ان دول عديدة تضيف لقائمة الارهاب منظمات مقاومة تستخدم العنف ضد احتلال دولة لاخرى او اخضاع قومية سائدة لاقلية قومية. ولكن عندما تذكر كلمة “ارهاب” عادة ما يشار الى الارهاب الممارس من منظمات جهادية اسلامية مثل منظمات “القاعدة” و”داعش” واشباهها، والتي تتميز بانها الاكثر نشاطا وانتشارا في العالم، اذ لا تقتصر عملياتها على بلدانها الاصلية بل تتعداها للعالم كمسرح لعملياتها. لكن الارهاب لا يقتصر على الارهاب الاسلاموي، فهناك الوجه الآخر للعملة او الجناح الآخر، ما يمكن تسميته “الارهاب الابيض” في اميركا وبلدان اوروبية.
ينشط الارهاب الابيض في منظمات بين السرية والعلنية توضع عادة في اطار “اليمين المتطرف”. الا ان العديد منها لا تكتفي بالعمل السياسي من خلال الانظمة والاطر الديمقراطية في بلدانها، بل تتجاوزها في كثير من الاحيان لاستخدام العنف العشوائي ضد المدنيين المسالمين او ضد اجهزة الدولة ومسؤوليها المنتخبين. ويبررون اعمالهم الارهابية بنظريات يمينية متطرفة يقترب العديد منها من نظرية المؤامرة الخيالية. فكما يقوم الارهاب الاسلاموي بعملياته اعتمادا على نصوص دينية يفسرها حسب الرغبة لتبرر اعماله العنيفة ضد المجتمع، كذلك الارهاب الابيض يمارس عملياته بالاعتماد على نظريات اغلبها عنصرية ومنها خاصة “نظرية الاستبدال”.
احدث عمليات الارهاب الابيض شكل إطلاق نار جماعي في ايار الماضي في بافالو بولاية نيويورك بسوبرماركت في حي ذي أغلبية سوداء، اودى بحياة 10 أشخاص 9 منهم من اصل افريقي. وقد تبين من التحقيق مع منفذ العملية الابيض البالغ من العمر 18 عامًا أنه يتبنى نظرية سياسية عنصرية تسمى “نظرية الاستبدال العظيم” ، فقد نشر على الإنترنت بالتفصيل سبب اختياره لمتجر في حي معظمه من السود لأنه: “أراد قتل السود للقتال ضد نظرية الاستبدال العظيم” التي لها ايضا اسماء اخرى ومنها: “نظرية الاستبدال الأبيض”، و”الإبادة الجماعية للبيض”.
مجزرة بافالو ليست وحيدة من نوعها. فقد سبقها الكثير في اميركا واوروبا ومنها كمثال قتل “ديلان روف” لتسعة أشخاص من السود كانوا يحضرون فصل دراسة الكتاب المقدس في “تشارلستون” بساوث كارولينا في عام 2015. وفي اميركا ايضا عام 2019، قُتل شخص ضمن محاولة لقتل 53 آخرين في كنيس في ضاحية سان دييغو. وصرح القاتل بانه ارتكب جريمته لمنع “الإبادة الجماعية المخططة بدقة للعرق الأوروبي”. وبنفس العام في “إل باسو” بتكساس، قتل مسلح 23 من المهاجرين المكسيكيين ببندقية هجومية. وهي ليست ظاهرة أمريكية فقط. ففي مدينة “كرايست شيرش” بنيوزيلندا، ارتكبت مذبحة في مسجد عام 2019 حيث قتل 51 شخصًا على يد أحد المتعصبين البيض الذي كان يخشى “الإبادة الجماعية للبيض”. وفي النرويج في عام 2011، قتل “أندرس بريفيك” 77 شخصًا في تفجير وإطلاق نار جماعي منهم العديد من الأطفال.
جوهر النظرية اعتقاد معتنقيها بأن المهاجرين غير البيض سيشكلون الاغلبية مع الزمن. وهم لن يأخذوا وظائف البيض فقط، بل ايضا المراكز الرئيسية في السلطة السياسية والاقتصاد والثقافة، التي يحتكر اغلبيتها البيض حاليا. وأنه إذا لم يوقفوا تدفق المهاجرين، فإن الثقافة البيضاء ستتوقف عن الوجود، وسيفقد البيض قريبًا مكانتهم المتميزة في ذروة المجتمع لصالح الملونين. ويضاف لهجرة الملونين عادة عامل يبرزه المعادون لها هو معدل مواليد الملونين الذي يفوق معدلات البيض. ويجادل أتباع النظرية بأنه يجب إخضاع “الغرباء” أو نفيهم أو القضاء عليهم. ويعتبر معتقدو النظرية ان “الاستبدال” مؤامرة يتم تدبيرها من قبل “اليسار” ليحل محل الناخبين، الذين معظمهم بيض حاليا، ناخبون ملونون مطواعون لليسار. وكان “تاكر كارلسون” من قناة “فوكس نيوز: الاميركية قد ربط سياسات الحزب الديمقراطي بـ”استبدال الأمريكيين المولودين في اميركا بأشخاص أكثر طاعة من بلدان بعيدة”.
يعود اصل “نظرية الاستبدال العظيم” لفرنسا عندما نشر “رينو كامو” (Renaud Camus) كتابًا في العام 2011 يدعي فيه أن أوروبا تعرضت للغزو من قبل المهاجرين السود والسمر من إفريقيا. وقد عنونَ كتابه باسم “Le Grand Remplacement”، وبذلك ولد اسم نظرية مؤامرة يمينية تنص على أن السكان الفرنسيين الكاثوليك البيض، والسكان الأوروبيين المسيحيين البيض عمومًا، يجري استبدالهم بشكل منتظم بغير الأوروبيين، خاصة من الشرق الاوسط وافريقيا بشمالها وجنوبها، من خلال الهجرة الجماعية والنمو السكاني. ويعتقدون ان هناك خطرا محتملا لتدمير الثقافة والحضارة الفرنسية. ويتهمون النخب الليبرالية، بتديير مؤامرة مسبقة ومتعمدة لاستبدال الشعوب الأوروبية. وفي اميركا يشار لرواية The Turner Diaries كتبها عام 1978 “ويليام بيرس” تدور احداثها حول ثورة عنيفة عرقية في اميركا تؤدي لإبادة غير البيض. وقد وصفت FBI الرواية بانها “إنجيل اليمين العنصري الابيض”.
من يروج لنظرية الاستبدال الأبيض؟
تتطابق النظرية في عدد من اوجهها مع بعض ما يعرض على قناة “فوكس نيوز” المحافظة، ومع بعض تصريحات لنواب جمهوريين في الكونغرس الاميركي. وقد وجد استطلاع لـ”اسوشسيتدبرس” ومركز NORC لأبحاث الشؤون العامة، أن 1 من كل 3 أمريكيين يعتقد أن الاستبدال صحيح، وأن هناك جهدًا جاريًا لاستبدال الأمريكيين البيض بالمهاجرين لتحقيق مكاسب انتخابية. القلق لدى هؤلاء ساهم في صعود دونالد ترامب عام 2016، وكان اول قراراته الرئاسية بعد توليه السلطة ولارضاء ناخبيه، اصدار قانون لمنع الهجرة من بلدان متخلفة. ولو لم تلغِ المحاكم قراره المناقض للدستور لاستمر في خطته لحصر الهجرة في البيض من بلدان غربية.
اقوى شخصية رسمية عبرت عن عدائها للهجرة “الاستبدالية” في اميركا كانت النائبة الجمهورية “إليز ستيفانيك” من نيويورك، القيادية الثالثة للحزب الجمهوري في مجلس النواب، التي صرحت ان: “الديمقراطيين الراديكاليين يخططون لأشد خطواتهم عدوانية حتى الآن.. إن خطتهم لمنح الجنسية لـ 11 مليون مهاجر غير شرعي ستطيح بالموازين الناخبة الراهنة وتخلق أغلبية ليبرالية دائمة في واشنطن.” وهي ليست الوحيدة في الحزب الجمهوري التي قالت أشياء من هذا القبيل، لكنها ربما الأوضح. علما بأنه ليس كل يميني ابيض متطرف يعتقد بنظرية الاستبدال بكل تفاصيلها ولكن يتمسك بافكار تقاربها.
الأشكال الأكثر تطرفا من العنصرية في اميركا غير مقبولة على نطاق واسع، وهناك قوانين لمواجهتها. انصارها يميلون إلى توخي الحذر لإنهم يعرفون أنهم مراقبون. فهم لا يوجهون نداءات لحمل السلاح، بل يستفيدون من حرية التعبير وسماح الدستور الاميركي للاميركيين باقتناء السلاح. وقد سبق لـ”القوميين البيض” و”انصار تفوق الجنس الابيض” وغيرهم من منظمات اليمين المتطرف، ان قاموا بمسيرة في “شارلوتسفيل” بولاية فرجينيا عام 2017، تحولت إلى اشتباكات قاتلة وكانت هتافاتها الرئيسية “لن تحلوا محلنا!”
خطر مفهوم “الاستبدال” نشره العلني للكراهية ضد الأشخاص من ذوي البشرة السمراء مما يغذي الهجمات العنصرية للبيض. تهاجم نظرية المؤامرة هذه جوهر مفهوم “بوتقة الانصهار” للقوميات والثقافات والاصول المتعددة للمهاجرين في أمريكا وبلدان اوروبية، ولا ينبغي تركها دون رادع. وفي حين أن أولئك الذين ينشرون هذه العقيدة الخطرة لديهم حق التعديل الأول في الدستور للتعبير عن رأيهم، فإن الغالبية المعارضة لها الحق في الوقوف في وجههم ومنع انتشار أفكارهم الخطرة على المجتمع بالوسائل الديمقراطية السياسية والتثقيفية، مع محاسبة قانونية متشددة عندما ينتقل الامر من مجرد ابداء الرأي الى استخدام العنف لتحقيق اهداف النظرية. ولا بد من تشديد اجراءات شراء الاسلحة الهجومية خاصة من قبل الافراد وهذا ما يعارضه معظم ممثلي الحزب الجمهوري خدمة لشركات صناعة الاسلحة وبائعيها. كذلك تشديد الاجراءات الامنية ضد المنظمات المتطرفة ليس فقط السرية منها، بل العلنية ايضا التي تروج لنظريات تعتمد من الارهابيين لتبرير قيامهم باعمالهم الاجرامية، بطريقة لا تؤدي لتقليص حرية المواطنين في التعبير عن رأيهم.
ahmarw6@gmail.com