من الغريب طبعا ان نستعمل في عنوان مقال ما لغةً اجنبية! حتى لو كانت اللغة الانكليزية، والتي هي لغة التعامل والتخاطب والتواصل العولمي، حتى في مرحلة التحولات الكبرى التي تنحو باتجاه عالم متعدد الاقطاب وربما متعدد العملات.
فاللغة العربية التي شكلت العمود الفقري للنهضة العربية، ولاعادة اكتشاف العرب لذواتهم وروابطهم القومية بعد قرون من الانحطاط والتخلف والحكم الغريب، تمتلك من القوة المعجمية ما يكفي ويزيد. وهذا لا يمنع من القول انها لغة بحاجة لتحديث وتنويع لتصبح اكثر مرونة واكثر قدرة على تجاوز جمال النص وايقاعه لمصلحة المضمون والتجدد ولمحاكاة قرون من التطور الصناعي والتكنولوجي والعلمي عموما. واللغة العربية شكلت لغة التعامل والتخاطب العالمي في اوج السيطرة العربية السياسية والتجارية والثقافية في مرحلة سيادة الحضارة العربية ودخلت مفرداتها بالآلاف في معظم لغات العالم. وقد ظلت اللغة والثقافة العربية سائدتين، حتى حين اصبح الحكام الفعليون للاراضي والمناطق العربية او المستعربة من اعراق أخرى، على ما يقول « كيم مكنتوش » في رائعته “العرب”. وماكنتوس يؤكد في كتابه على دور رئيسي للبنانيين،المسيحيين خصوصا، في استحضار وتطوير وصمود ونشر اللغة والثقافة العربيتين، في مواجهة التتريك والفرنَسة، رغم الدور الفرنسي الحاسم في انشاء دولة لبنان الكبير، ورغم حكم العثمانيين للمناطق العربية عدة قرون.
اما التعبير المستعمل في العنوان وترجمته الحرفية “اضرار جانبية” فقد لجأتُ البه لدلالاته العديدة. اذ اخترعته القوى الكبرى الغاشمة، الغربية بشكل خاص، لتبرير الدمار وسقوط الضحايا المدنيين مهما كان عددهم، في حروبها وحملاتها ضد الدول والشعوب الضعيفة او المستضعفة تحت مسميات مختلفة، وبعضها حروب جرت بالواسطة. ودول أخرى اكثر وقاحة وفجورا، تحمّل الضحايا مسؤولية موتهم ولا تجد حرجا قي ارتفاع منسوب القتل والتهجير الناتج عن حملاتها والذي يقارب المجازر والاضهاد العرقي احيانا. كما فعلت روسيا في الشيشان وسوريا واوكرانيا. وكما تفعل دولة الاستيطان الصهيوني والفصل العنصري في فلسطين. اما بعض الدول الدكتاتورية والاوتوقراطية والشمولية، فلا تتورع عن الفتك بشعوبها وتدمير مدنها بدم بارد عند اي حراك. الم يرفع جماعة الدكتاتور السوري شعار “الاسد او نحرق البلد” وكأننا في قرون سابقة كما جاء في أحد قصائد جون درايدن عن شارل الثاني “مصمم على أن يدمر أو يحكم الدولة”؟ ثم، الم يلجأ الملالي في طهران الى القمع الدموي لانتفاضة ٢٠٠٩ العارمة ردا على تزوير الانتخابات واعتقال المرشحين الاصلاحيين؟ والقائمة تطول.
في الحروب الاهلية عامة وفي الحرب الاهلية اللبنانية التي تمر ذكراها السابعة والاربعين خاصة، يجري تبرير « الاضرار الجانبية » واحيانا تسخيفها، بالنظر لقدسية الاهداف المؤدلجة والمتراصة والفئوية، والتي تشكل العصبية التي يتكئ عليها المتبارزون. دون ان ننسى الشخصانية والنرجسية التي يتمير بها بعض انصاف الالهة في لبنان وفي المنطقة عموما. ويكاد يختفي الهامش بين « الاضرار الجانبية » وعملية التدمير والقتل الممنهج والعشوائي، خصوصا حين تتداخل هذه الحروب مع الإنقسامات القبلية والعصبيات الهوياتية التي ساهمت بفرملة النهضة العربية. فضلا عن اطماع واحلام مثلث التماسيح الاقليمي غير العربي في المنطقة، معطوفة على سياسات الدول الكبرى، واداراتها للصراعات والحروب بعقلية المصالح الباردة.
وقد دخل مصطلح « اضرار جانبية » مؤخرا في صميم العلوم الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والبيئية ولم يعد استعماله حكرا على حالات الحروب، نظرا لانعكاساته على انماط التفكير المجتمعي والاجتماعي، خصوصا في المجتمعات المتقدمة والديمقراطية، حيث تتكاثر الفئات والمجموعات المدنية التي تنتظر حكوماتها على المفرق في كل القرارات، مفندة تداعيات قراراتها على مجمل نواحي الحياة حاضرا ومستقبلا. فلا غرابة في الواقع لنشوء احزاب بيئية صرفة بالنظر للأضرار الجانبية البيئية التي تعرف بـ global warming والتي تسبب التغييرات المناخية، الخطرة والكارثية مستقبلا، فضلا عن تلوث الهواء واثاره الوبائية والصحية. وقد شكلت « الاضرار الجانبية » جزءا اساسيا من كتاب طوبي اورد “شفير الكارثة ومستقبل الانسانية”، حتى ان هوليوود استثمرت في المصلح وانتجت فيلما بعنوان “collateral damage”.
اما اذا اردنا اسقاط هذه الافكار على الواقع اللبناني الحالي، فنذكر اولا ان كثيراً من المفكرين اللبنانيين رأوا، “ان لبنان لم يخرج من مرحلة الحرب الاهلية الحامية الا ليدخل في مرحلة السلم الاهلي البارد”، خصوصا ان تطبيق اتفاق الطائف وعملية اعادة الإعمار حصلا تحت ثقل النظام السوري المجاز اميركيا، كجائزة عن دوره الخبيث في “عاصفة الصحراء” التي، وإن أخرجت قوات الدكتاتور العراقي من الكويت، فانها استكملت بحصار الشعب العراقي وافضت لمئات الوف الوفيات التي اعتبرتها القوى المحاصرة collateral damage. بينما وصفها باحثون غربيون مستقلون بالابادة الجماعية. ثم لينتقل هذا الثقل الامني السياسي لاحقا الى القيادة الايرانية بواسطة حزب الله بعد خروج القوات السورية بقرار اممي تحت وطأة انتفاضة الاستقلال الثاني التي اشعلها زلزال اغتيال الرئيس الحريري.
لقد سال حبر كثير في وصف وتحليل وقائع المرحلة السياسية التي اعقبت اغتيال الحريري وخروج القوات السورية، بدءا بحكومة الميقاتي الانتقالية وانتخابات ٢٠٠٥ وتحالفاتها السلطوية، مع ما حملته من اوهام حول « لبننة » الحزب الايراني المنشأ والايديولوجيا، مرورا بحلف الاقليات الذمي بين السيد والجنرال. وبالحرب المستجرة في ٢٠٠٦ بعد فشل محادثات النووي في فيينا بين ايران والوكالة الدولية، وما خلفته من قتل وتهجير ودمار، وما اعقبها من استثمار واحتلال الوسط التجاري وحصار السراي واغتيال القيادات السيادية و غزو بيروت وبعض الجبل. وما تبع ذلك في مؤتمر الدوحة السيء الذكر، بثلثه المعطل الدي اسقط حكومة الحريري الاولى ومنع اعادة تكليفه بعراضة القمصان السود، وصولا لانتخاب الجنرال عون رئيسا واستكمال السيطرة الحزب اللاهية البرلمانية في انتخابات ٢٠١٨ بقانون هجين وبغيض، وضمن ميزان قوى اقليمي ودولي اختل كليا بعد التدخل الروسي الحاسم في سوريا وما رافقه من تلكؤ او تواطؤ اميركي واوروبي، وما تبعه من اتفاق نووي اطلق العنان لمزيد من الحقد والعبث الايرانيين في المنطقة العربية.
وفي هذا السياق نذكر تحول أعضاء حزب الله من مقاومي احتلال الى فرق جوالة عند الراعي الايراني، تستعمل في سوريا، كما في العراق واليمن واماكن أخرى في المنطقة والعالم.
ولا ننسى كيف قمع شبيحة الثنائي المسلح المنتفضين اللبنانيين العابرين للطوائف والمناطق واحرقوا خيمهم وبعض المحلات في وسط العاصمة الجريحة بغزوات متكررة وبشعارات مذهبية، رغم تحييدهم لسلاح الحزب المدمر للسيادة، وتركيز شعاراتهم على الحوكمة والفساد ومظاهر الانهيار المالي والاقتصادي والاجتماعي.
كما لا ننسى كيف عبث الثنائي المسلح بالسلم الاهلي لمنع المحقق بيطار من استكمال التحقيق في انفجار المرفأ الذي دمر اجزاء من العاصمة وقتل المئات وجرح وشرد الآلاف. وكيف تعمل السلطة على تهميش الجريمة بقرار ازالة الاهراءات عوض تدعيمها وتحويلها الى نصب تذكاري يشهد على احدى اكبر جرائم العصر، و كأننا امام اضرار جانبية بسيطة وليس امام جريمة مروعة شبهها كثر بابادة جماعية.
وجمعية الفنانين التشكيليين مدعوة لان تأخذ موقفا حازما يجعل من الصعب على اي نحات ان يشارك بمشروع السلطة لابدال الاهراءات بنصب تذكاري. فلطالما لجأ الطغاة لبناء نصب وصروح لاخفاء جرائمهم، حتى انه يقال ان احد اسباب التعجيل في بناء بازيليك القلب الاقدس في المونمارتر الباريسي هو التغطية على جرائم تيارس بابادة مناضلي كومونة بارس.
في الحقيقة فإن اداء قوى السلطة في لبنان عموما، والمستقويين بفائض القوة الفئوية خصوصا، تجعل « امير » ماكيافيلي يخجل من اعمالهم، التي باتت اضرارها الجانبية او العشوائية او الممنهجة على كل المرافق والقطاعات والادارات تقارب شفير الكارثة دون ان يرف لمعظمهم جفن. دعنا من مدعي الطهارة المالية ومثرثري نظريات النظام الريعي والنظام المنتج والمتغرغرين بحقوق المودعين والكابيتال كونترول والاصلاحات الوهمية، فهم رغم خلافاتهم القبلية والمافياوية يتابعون عصر رياض سلامة والمصرف المركزي لهر آخر فلس ارملة والنقر ربما على السبائك والاستثمار الانتخابي العاري، ولسان حال معظمهم، “من بعدي الطوفان”.
وما يزيد في الجرح الوطني ايلاما، هو حالة التبعثر والخلافات والشخصانية في الضفة الأخرى، التي ينتشر فيها معارضون ومعترضون ومنتفضون وثوار من شتى المشارب والاتجاهات. حتى ان تعدد الاراء والمنطلقات والمقاربات باتجاه الأهداف المشتركة باتت اضراره الجانبية كارثية. سواء بمواجهة فائض القوة المسلحة التي تخطف وترهن البلد لمصلحة راعيها الايراني، منقلبة على الدستور، ومعرضة العيش الواحد والسلم الاهلي والكيان لأخطار وجودية، سواء بمواجهة باقي اركان السلطة المتواطئة او الخائفة او الواهمة.
سواء امام مجتمع دولي لم يعد يهمه سوى لملمة الوضع بما تيسر للحفاظ على مصالحه، بما فيها عدم تحمل اضرار جانبية على شكل فوضى وقوافل هجرة، خصوصا مع استمرار الغزو الروسي لاوكرانيا وتداعياته المختلفة، القطاع المصرفي يتداعى وتتحول المصارف لدكاكين، بعد ان كانت مولات تجذب رؤوس الاموال وحامليها.
القطاع التربوي يتراجع والجامعة اللبنانية التي حرثها اللبنانيون بجفون العيون دخلت في ازمات مصيرية قد لا تخرج منها بسلام. حتى الجامعة الاميركية التي خرجت باحثين ومهنيين وثوارا، بدأت تتسلل خارج الحاضرة البيروتية. اما المستشفيات التي لطالما شكلت مفخرة، فهي تأن من الالم كما مرضاها النادرين من سوء الحال والاحوال. ولا ضرورة للاستفاضة بالواقع الحياتي والاجتماعي البائس والذي يدفع الناس للإختيار بين جهنم السلطة المنهارة وبين مراكب الهجرة والموت. والمؤلم أن كلامنا الحالي يترافق مع فاجعة مركب الهجرة الطرابلسي.
لطالما دعونا اهل هذه الضفة الى توسيع المساحات المشتركة والتخفيف من الشخصانية وام المعارك والمنازلات الكبرى، وابتداع خطط المواجهة للقضايا المثارة وغيرها، والتي كان يمكن ان تعيد الامل الى الجمهور النافر والمنكفئ والرابض في محطات الإنتظار.
وما نفع اللوائح والبرامج الانتخابية في غياب سقف سياسي سيادي اصلاحي واضح يقي المرشحين الجديين خطر الشطط، وفي غياب حراك شعبي، يضع الانتخابات في سياقها النضالي، ويخرجها من الاوهام ومن الطقوس اللبنانية التقليدية. فالخصم المدجج في الدويلة والمتسلط على الدولة لم يتحمل اعلان لائحة في الصرفند واعتدى على المشاركين، رغم انها تضم احزابا وشخصيات لا تذهب بعيدا في الموضوع السيادي وتكرر الكلام السياسي والبرامجي الكلاسيكي.
حتى المجلس الوطني لرفع الاحتلال الايراني عن لبنان والذي يحتضن نخبة بارزة ومتنوعة من الناشطين المخضرمين والسياديين، والذي لم يعتمد الترشيح المباشر، ترشح بعض اعضائه على لوائح متقابلة، خصوصا في بيروت وطرابلس.
هذه ليست دعوة للاحباط ولا لزرع الاوهام، بل لتحفيز التواصل والحوار الجدي بين منوعات اهل الضفة المعارضة والثورية لتخفيف الاضرار الجانبية ولاعتبار الانتخابات، ان حصلت، خطوة في جلجلة دحرجة الحجر الثقيل عن صدور اللبنانيين في هذه الايام المقدسة.
talalkhawaja8@gmail.com *طرابلس