لم اقابل الشهيد جبران التويني وجها لوجه الا حين سمعته عن قرب يطلق قسمه التاريخي في انتفاضة ١٤ آذار. وهو القسم الذي سيدفع حياته ثمنا له حين اصر على العودة الى البلد رغم كل التحذيرات التي وصلته من ان اعداء الحرية، الذين فجروا موكب الحريري ورفاقه بطنين من المتفجرات، قد أقسموا امام الشيطان على اصطياده واصطياد طيور الحرية، كما اصطادوا اخرين ومن بينهم زميله سمير قصير.
لم التق جبران، رغم انني احد الذين فتحت لهم جريدة النهار صفحاتها، خصوصا خلال فترة مواجهة النظام الامني السوري اللبناني من قبل هيئة التنسيق النقابية، والتي ساهمت رابطة الاساتذة المتفرغين في الجامعة اللبنانية بتأسيسها في تسعينيات القرن الماضي في سياق معركتها لاعادة الروح الاكاديمية والديمقراطية والتوحيدية لمؤسسات وفروع الجامعة المنقسمة والمقبوض عليها من قبل قوى الامر الواقع ورعاتهم.
والحقيقة ان من بث فينا هذه الروح هم اساتذتنا الكبار، واولهم احد مؤسسي الجامعة اللبنانية وباني ومؤسس كلية العلوم الراحل حسن مشرفية. وبالمناسبة فقد حظيت بالتعرف على غسان تويني في احد اللقاءات التي كانت تجمع اساتذة الزمن الاكاديمي الرومانسي مع حسن مشرفية، حيث كان يحثنا على عدم الرضوخ امام الهجمات التي تستهدف الحريات عموما والحريات الاكاديمية خصوصا. فالحرية شكلت احدى سمات لبنان الرئيسية و اكسبته مكانة عربية ودولية، رغم ما مر به من ازمات وحروب واحتلالات، ورغم العطب الطائفي الأصلي الذي توسع وتكرس مع مرحلة التأسيس برعاية كولونيالية. علما ان هذه المكانة قد تدحرجت لتصل الى قعر غير مرئي، تحت وطأة فائض القوة الفئوية المرعية ايرانيا، مصحوبة بتواطؤ او خوف او تلكؤ الطبقة السياسية الرسمية، بما فيهم اصحاب النكهة السيادية.
في بداية شباط ٢٠٠٥ اتصل بي « باسم بكور » من صفحة التحقيقات في جريدة النهار، للعمل على تحقيق حول مشروع وجدار بوزار الذي كنا قد اطلقناه على حائط كلية العلوم في قبة النصر / طرابلس في نيسان ٢٠٠٤ في سياق حراك انمائي وثقافي لإظهار القوة الثقافية والحداثية للمدينة المقهورة من قبل النظام الامني السيئ الذكر. علما ان انجاز بعض الجداريات الفائقة الروعة من قبل فنانين بارزين، لبنانيين وعرب، قد شكل جاذبا حضاريا فريدا، جعل جميع وسائل الاعلام المرئي والمكتوب تتقاطر لالتقاط ونقل حي لنبض الحدث الاستثنائي، الذي وصفه البعض بالعمل السوريالي. ومن محاسن الصدف ان يكون محرر التحقيق من سكان الحي، مما جعل المقابلات واللقاءات اكثر حيوية، وقد اخترنا لها فنانين وناشطين بارزين من الحركة المدنية الوليدة، نذكر منهم، على سبيل المثال لا الحصر، رئيس بلدية طرابلس الراحل رشيد جمالي، علما ان عدنان خوجة كان قد انجز “جدارية العنفوان” عن طرابلس في محاكاة للمسؤولية الكبيرة التي تقع على عاتق الجمالي المنتخب حديثا، والتي قال عنها غسان التويني في تهنئته للجمالي بأنها تمثل تحديا للنخب الثقافية الملتزمة في ادارتها للشأن العام. وقد اختتم الزميل باسم تجميع مواد التحقيق بلقاء مطول معي مساء السبت في ١٢/٢/٢٠٠٥.
حوالي الواحدة في ١٤/٢/٢٠٠٥ كنت اتصل من السيارة بصهيب الرشيد، احد تجار الموزاييك، لأستفسر عن وصول مواد اوصيناه بها لجدارية الإعمار التي سينفذها فضل زيادة كتحية للحريري على دعمه لمشروع المدينة الجامعية في المون ميشال ولاعادة الاعمار البلد عموما، فتمنى علي الرشيد ان اتابع اخبار انفجار مقلق امام السان جورج.
بضع ثوان وارتدادات زلزال اغتيال رفيق الحريري شعر فيها السكان في كل مكان، خصوصا سكان المدينة التي ترزح تحت ثقل مخابرات النظام السوري، والتي خرجت للشوارع منددة بالقتلة بالصوت والريشة، حيث انتقلت عدوى الجداريات الى كل حي في طرابلس.
لم نعد ننتظر التحقيق الموعود بالطبع، فقد اجتاح البلد حمى الاستقلال الثاني، خصوصا في العاصمة وفي ساحة الحرية التي تحولت الى معقل لثوار الارز.
الاحد صباحا في ٢٧/٢/٢٠٠٥ اتصل بي الراحل مصباح صمد سائلا هل اشتريت الجريدة؟
مكملا قبل ان اجاوبه، بان النهار وضعت الى جانب عنوانها الرئيسي حول السلسلة البشرية الممتدة من موقع الانفجار الى البرلمان عنوانا فرعيا هو “بوزار تمحو خطوط التماس الطرابلسية” مع صفحة كاملة بالالوان عن جدار ومشروع بوزار.
وقد علمت بالتواتر، بان جبران التويني كان قد وجد في التحقيق بعضا من جواب على ما قاله رئيس الحكومة الاسبق عمر كرامي في وصفه النمطي لطرابلس بطريقة اوحت، بانها مدينة تقليدية وممانعة وغير معنية بشعارات السيادة والحرية والحداثة التي تجتاح ساحات العاصمة. وكان الرئيس الراحل، والذي استقال تأثرا برثاء بهية الحريري لاخيها الشهيد في البرلمان، قد عاد والتحق بمرجعية عين التينة ولاحقا بمرجعية حارة حريك بعد تلكؤ وارتباك الرئيس بري الذي هاله زلزال الاغتيال وتداعياته.
لن نستعيد لحظات وايام وسنوات واحداث القهر والالم التي طبعت مراحل بكاملها منذ استشهاد رفيق الحريري وجبران التويني وعشرات الشخصيات السياسية والاعلامية والعسكرية والمدنية، والتي ازدادت الما وقهرا مع انفجار وجريمة النيترات المروعة وما تبعها من مآسي وجرائم، خصوصا جريمة اعتيال الناشط والمثقف المميز لقمان سليم. الا اننا نتوقف قليلا امام الجولات الدموية في طرابلس والتي تفجرت مع تحرك الفوالق السياسية والامنية، خصوصا بعد دخول ميليشيا حزب الله طرفا في قمع الثورة السورية الى جانب النظام السوري المجرم.
لم تستسلم طرابلس للعبث الدموي وما رافقه من تخريب وافقار وتنميط وتشويه. اذ لم تتوقف الحراكات المدنية والثقافية والفنية لمجتمعها المدني الحيوي، تحت شعار وقف العبث وعبور الدولة اليها رغم مظلومية الكيل بمكيالين التاريخية، مما جعل كثر يتدفقون من كل لبنان لدعم المدينة التي تحولت لاحقا الى ايقونة لانتفاضة الغضب التشرينية.
في احدى هذه الحراكات اقمنا في الرابطة الثقافية التي تختزن ذاكرة النضال المدني والثقافي الطرابلسي، حفلا حاشدا للفنانين التشكيليين الذين جعلوا شعار “بوزار تمحو خطوط التماس الطرابلسية” ممكنا. وتكريما لهم ولجبران وللحرية التي لن تنكسر، استعدنا هذا الشعار كعنوان لكتيب وزعناه، وشكل دليلا وبرنامجا لنضالنا المدني والثقافي. وقد عبر الحضور المتنوع عن اعتزازه باستعادة بعض النفس الطرابلسي الاصيل، بعد ان ملأت الشاشات صور العنف الدموي الذي يلف المدينة واحياءها الأكثر تهميشا.
فتحية لروح جبران الذي ما زالت جرأته وشهادته تلهم الكثيرين.
تحية لأرواح رشيد ومصباح والياس ديب وجبور الدويهي ووجيه نحلة ولجميع العشاق الذين امنوا بأن حركتنا، على”سوريالياتها”، تليق بهذه المدينة المتألمة والتي تصر على المقاومة بالصوت والريشة كما بالنبض وهذا اضعف الايمان.
طرابلس في ٢٦/١٢/٢٠٢١
talalkhawaja8@gmail.com