في أعقاب مظاهرات سلمية عارمة في مختلف المدن والولايات الهندية، تخللها القليل من العنف واستغرقت نحو عام، قادها المزارعون الهنود لإجبار حكومة رئيس الوزراء « ناريندرا مودي » على إلغاء ثلاثة قوانين زراعية فيدرالية مثيرة للجدل مررتها حكومته في البرلمان الاتحادي في سبتمبر الماضي. ومن بعد 11 جولة من المفاوضات العسيرة بين الحكومة وممثلي المزارعين انتهت بالفشل لتمسك كل جانب بوجهة نظره، فاجأ مودي شعبه مؤخراً في خطاب متلفز بقرارٍ تراجع فيه عن خططه، واعداً بإلغاء تلك القوانين بطريقة دستورية من خلال جلسة قريبة للبرلمان.
بدأت المظاهرات والاعتصامات منذ فبراير الماضي، وتوسعت شيئا فشيئا لتصل إلى محيط البرلمان الهندي في العاصمة نيودلهي، حيث أقام المحتجون ثلاثة معسكرات ضخمة مزودة بكافة احتياجاتهم اليومية.
أما القوانين التي تسببت في هذا الوضع فقد دافعت عنها الحكومة بقوة من منطلق أنها ضرورية لتحديث وانعاش قطاع الزراعة، الذي يعتمد عليه أكثر من 50% من سكان الهند كمصدر للعيش، ويمثل في الوقت نفسه حوالي 16% من الاقتصاد الهندي البالغ حجمه 2.7 تريليون دولار، وأنها تعني فرصا جديدة وأسعارا أفضل للمزارعين وأنها تسهّل القواعد المتعلقة بالتخزين والتسويق وبيع المنتجات والمحاصيل الزراعية، وتساهم في تعزيز الانتاج من خلال الاستثمارات الخاصة. غير أن المزارعين المتظاهرين ــ ومعظمهم من الأمّيين ــ رأوا أن القوانين سوف تجعلهم ضعفاء أمام الشركات الكبيرة، وأن من شأنها تحرير أسعار المحاصيل، وبالتالي تخفيض أرباحهم. وشاركهم في مخاوفهم بعض المشاهير ونواب أحزاب المعارضة، ولا سيما حزب المؤتمر الطامح للعودة إلى السلطة بدليل قيام زعيمه « راهول غاندي » بامتطاء جرار زراعي وقيادته نحو مبنى البرلمان في عمل رمزي قصد به الوقوف مع المحتجين ضد الحكومة.
لجهة تفاصيل القوانين المختلف عليها، نجد أن القانون الأول هو قانون تجارة منتجات المزارعين (الترويج والتيسير) ويسمح للمزارعين ببيع منتجاتهم خارج لجان أسواق المنتجات الزراعية (APMC) وهذا يعني أنه يمكن للتجار الشراء من المزارع بسعر متفق عليه بشكل متبادل. والقانون الثاني هو اتفاقية ضمان الأسعار وخدمات المزارع (التمكين والحماية) ويسمح للمزارعين بالقيام بالزراعة التعاقدية وتسويق منتجاتهم بحرية. والقانون الثالث هو قانون السلع الأساسية، الذي يسثني الحبوب الغذائية والبقول وزيوت الطعام والبصل ويجعلها غير مقيدة بالتجارة إلا في ظروف استثنائية.
والمعروف أن “الثورة الخضراء” التي أطلقتها حكومة رئيسة الوزراء الأسبق أنديرا غاندي في سبعينيات القرن الماضي حوّلت الهند من بلد يعاني من نقص غذائي إلى بلد يملك فائضا كبيرا، فصار مصدرا للغذاء بعد أن كان مستودرا. غير أنه لوحظ في العقود الأخيرة أن دخل المزارع الهندي بقي راكدا بصفة عامة ولم يعد متناسبا مع مستويات المعيشة الجديدة في ظل إنطلاقة الهند الاقتصادية، الأمر الذي ألح على الحكومة تحديث القطاع الزراعي وتركيبته التقليدية وجلب المزيد من الاستثمارات إليه.
اعتبر البعض أن تراجع مودي عن القوانين الثلاثة بمثابة هزيمة مدوية لشخصه وسياساته وأسلوب حكمه، ونصر إستثنائي للمزارعين ونقاباتهم وللعملية الديمقراطية! فيما اعتبر البعض الآخر أن قرار التراجع أتخذ للحيلولة دون احتمال توسع دائرة الاحتجاجات بانضمام غير المزارعين إليها، وأيضا بهدف قطع الطريق على التدخلات الخارجية التي ظهرت بوادرها بتعاطف الخارجية الأمريكية مع ظروف وأوضاع المحتجين والمعتصمين لأشهر في نيودلهي وطريقة تعامل الشرطة الهندية معهم. غير أنه، بغض النظر عن الدوافع والأسباب، نعتقد أن مودي أحسن صنعا بتراجعه، لأنه نزع بذلك فتيل قنبلة كانت ستقلل فرص فوزه في الانتخابات العامة القادمة المقرر إجراؤها عام 2024، وفرص فوز حزبه وحلفائه في انتخابات المجالس التشريعية المحلية لولايات أوتر براديش (أكثر الولايات الهندية ازدحاما بالسكان) والبنجاب وغوا وأوتراخاند المقررة خلال السنة القادمة، خصوصا إذا ما أخذنا في الاعتبار أن المزارعين الهنود يمثلون أكبر كتلة انتخابية في البلاد.
وبطبيعة الحال، ابتهجت أحزاب المعارضة الهندية بما حدث واعتبرته انتصارا لها. فرئيس حزب المؤتمر الهندي المعارض الذي مني بأقسى هزيمتين في تاريخه في آخر عمليتين انتخابيتين على مستوى الهند، ولا يملك في البرلمان الاتحادي اليوم سوى 52 مقعدا من إجمالي عدد مقاعد مجلس النواب (لوك سابها) البالغ عددها 545 مقعدا، ركب الموجة وغرد قائلا: “إن رأس الغطرسة في البلاد استجاب أخيرا للفقراء بعد مقاومتهم السلمية”. وبالمثل غردت رئيسة حكومة ولاية البنغال الغربية وزعيمة حزب ترينامول لعموم الهند المعارض “ماماتا بانيرجي”، التي لا يملك حزبها سوى 21 مقعدا في البرلمان الاتحادي، قائلة: “تهاني القلبية لكل مزارع حارب بلا هوادة ولم يستسلم لقسوة حزب بهاراتيا جاناتا الحاكم”.
*أستاذ العلاقات الدولية المتخصص في الشأن الآسيوي من البحرين