تلقيت من بضعة ايام دعوة من صديقة عزيزة للمشاركة في حوار على « « زوم » حول موضوع الانتخابات النيابية المقررة مبدئيا في ايار ٢٠٢٢.
صاحبة الدعوة ي ناشطة طرابلسية معروفة، متعددة الاهتمامات المدنية والثقافية والنسائية، تعود معرفتي بها الى ايام الزمن اليساري الرومانسي، فضلا عن اننا زملاء في الجامعة اللبنانية. للزميلة مصداقية نضالية عالية، اكتسبتها خلال سنوات الجمر الطرابلسية الأخيرة، والتي تقلبت خلالها الفيحاء على صفائح ساخنة. والحقيقة ان طرابلس ما فتئت تتقلب على صفائح ساخنة تتغير حرارتها صعودا وهبوطا منذ ما قبل تأسيس لبنان الكبير.
فالحاضرة الشمالية بدأت تخسر كثيرا من ميزاتها الاقتصادية والسياسية والثقافية لصالح بيروت التي نمت وصعدت على وتر التحولات الجيوسياسية الكبرى التي رافقت ضعف وتفكك الامبراطورية العثمانية وتكون الكيانات العربية بوصاية ومراقبة لصيقة من القوى الاستعمارية، خصوصا بريطانية وفرنسا.
لن نستفيض في شرح الخصوصية الطرابلسية حتى لا نبتعد عن الهدف المرجو من المقال.
يكفي ان نقول بانه ليس بسيطا ان يتعمد المرء نضاليا في مدينة دائمة القلق، متأرجحة بين الماضي والحاضر والمستقبل . فالمظلومية الطرابلسية رافقت نشوء الكيان وتراجع مكانة المدينة التاريخية، واضيف لها مظلومية سنية وعربية، على وقع حروب الخليج وعنف النظام الفئوي السوري والنظام الإسلامي الايراني واختراق وتدميرأو حصار وإضعاف معظم المدن والحواضر السنية العربية الواقعة بين افكاك التماسيح الإقليمية الثلاث، اسرائيل وايران وتركيا ومطارق الدول الكبرى. وللمفارقة فقد تعززت هذه المظلومية بعد ان تقدم اهالي المدينة الصفوف في الدفاع عن الكيان الوطني ضمن شعار لبنان اولا.
ظهر هذا التقدم في انتفاضة الاستقلال الثاني التي اعقبت استشهاد الرئيس الحريري. وظهر في الحراكات المدنية والثقافية الواسعة التي خاضها الطرابلسيون لوقف جولات العنف بين الاهل في التبانة وبعل محسن وبقية الاحياء المهمشة في المدينة، والتي تفجرت مع تحرك زلزال الفالق السوري. وتعرضت طرابلس ايضا لتفجير ارهابي مزدوج اعد له النظام الفئوي في سوريا امام مسجدي التقوى والسلام.
رفعت الحراكات الطرابلسية انذاك شعار عبور الدولة الى طرابلس رغم سياسة الكيل بمكيالين التي لم تتوقف حتى خلال حكومة رئيس واربع وزراء من المدينة والتى اتى بها حزب الله بعد اسقاط حكومة سعد الحريري واستعراض القمصان السود.
وظهر الاندفاع الطرابلسي في انتفاضة الغضب التشرينية التي نقترب من ذكراها الثانية والتي تحولت خلالها المدينة الى ايقونة جاذبة للمنتفضين من كل مكان، قبل ان تتعثر هذه الانتفاضة لانها اشاحت وجهها عن مصدر الخلل الرئيسي في الواقع السياسي اللبناني. وهو خلل سيادي، مثله فائض القوة الحزب اللاهية التي تسترهن البلد واقعا ودورا ومصيرا لراعيه ومنشئه الايراني، منذ استطاع هذا الحزب السيطرة المتدرجة على مفاصل البلد وصولا للاطباق السياسي.
والمفارقة، أّنّ حزب الله ادرك باكرا بان الانتفاضة الشعبية العابرة للطوائف والمناطق ستهز قواعد سيطرته الفئوية رغم تركيزها على الفساد وغض الطرف عن السلاح، ولهذا قرر ضربها و احتواءها وتوجيهها بعض مجموعاتها المخترقة في خدمة أهدافه ومصالحه.
لقد ارفقت صاحبة الدعوة دعوتها النصية بشرح اضافي عن اهداف اللقاء، فذكرت بانه يهدف الى اطلاق الية اختيار اللائحة الثورية الطرابلسية التي ستقارع لوائح السلطة في الانتخابات. ودعت لحوار بين المكونات الاساسية التي تعمدت في الشوراع والساحات وغيرها من مرافق النضال السلمي والديمقراطي، على ان يؤدي لتشكيل مجموعة من “١٢ حكيما”من غير المرشحين ليلعبوا دورا حياديا في تكوين اللائحة الثورية.
لا تبدو المقاربة الطرابلسية في تكوين اللوائح معزولة عن المنحى العام الذي تسلكه المجموعات والجبهات والاحزاب التي توالد كثير منها من رحم الانتفاضة. فهذا المسار في تشكيل اللوائح المعارضة يكاد يختصر فعاليات ونشاطات هذه المعارضة المحكومة بهاجس المنازلة الانتخابية، حتى ان بعض الاعلام اللبناني بدأ يفرد جناحه مؤخرا لمنصات انتخابية مشابهة، تعددت اسماؤها وتنوعت روافدها وبعضها قفز الى لوحات الاعلانات، مستعينا بدعم اغترابي ملحوظ.
لا اعرف ما الذي تأمل هذه المعارضة تحقيقه في الانتخابات القادمة، خصوصا انها تبدو وكأنّها ترفع نفس الشعارات التي رفعتها في انتخابات ٢٠١٨ البائسة قانونا وسياقا ونتائج. علما أنني لا أقلل البتة من وقع الانتفاضة وإنجازاتها والدينامية التي خلقتها، خصوصا في فضح وتعرية السلطة بجناحيها الميليشيوي والمافيوزي.
أظن أن اكثرية المراهنين على التغيير في الانتخابات تدرك أنّ البلد محتل ودستوره منتهك وكيانه في خطر وانهياره سيادي وسياسي قبل أن يكون ماليا واقتصاديا، فآفة الفساد لطالما لازمت النظام منذ التأسيس. ومع ذلك فإنّ الأداء السياسي والنضالي لهذه القوى لا يعكس هذا الادراك. وفي المقابل نرى أنّ أداء القوى المعارضة والمستقلة والتي تفردت بموقف سيادي فاقع وصولا للدعوة لانشاء جبهة المقاومة المدنية السيادية، وبعضها يعتبر الانتخابات عبثية، لم يكن فعالا ايضا، رغم دورها الكبير في تعرية الإحتلال المقنع ودعوتها الصريحة للتحرير وتطبيق القرارات الدولية ذات الصلة.
الجهتان المعارضتان أدارتا الظهر عمليا لمواجهة تداعيات التسلط الفئوي وفائض القوة على البنى الدستورية والحقوقية والسياسية والاقتصادية والمالية والإجتماعية. عدا إطلاق المواقف المبدئية التي لم تنتقل الى مستوى التنسيق والخطة والفعالية الجاذبة لمشاركة الناس والمؤدية لانجازات واقعية وملموسة في الحياة اليومية المؤلمة للبنانيين المقهورين.
ففد ابتعدت الجهتان عن الصراع الحكومي واكتفت كل منهما بمواقف مبدئية، حتى خلال تكليف الحريري والذي بدا الاقرب الى شروط حكومة المهمة، خصوصا في مشروع حكومة ١٨. وقد شكل صموده النسبي بوجه شراسة عون/ باسيل وتقية حزب الله نوعا من الاستجابة للقاعدة السنية والمستقبلية الغاضبة من الإستهداف والتهميش، والتي شكلت مشاركة قسم كبيرمنها في الانتفاضة أحد اسباب استقالة حكومته اصلا. علما أن الحريري تمسك بنكهة سيادية ظهرت في ملاقاته بعض مواقف بكركي المبدئية وفي بعض بيانات رؤساء الحكومة السابقين، كما في بعض المناوشات المتفرقة مع حزب الله.
ما أقوله لم يكن ليعني الاصطفاف مع الحريري وهو ركن في “المنظومة” أصلا، بل كان سيعني الدفع بعامل مستقل في المواجهة الحكومية، مما قد يحرج قوى اخرى منكفئة داخل شوارعها وطوائفها رغم صوتها العالي. وهكذا موقف كان سيرفع اشارة صفراء ربما بوجه ماكرون المبتعد عن حكومة المهمة التي اطلق فكرتها، والمتواصل مع ايران وحزب الله في اخراج الحكومة، والطامع في صفقات ومصالح فرنسية مباشرة في ايران والعراق ولبنان، مستفيدا من قبة باط اميركا المنشغلة بالداخل والمتطلعة نحو الصين وروسيا والباسيفيك.
هكذا وصلنا الى حكومة يديرها حزب الله، ويختلط فيها العطر الفرنسي بالمازوت الايراني، وسيكون هاجسها العمل على اعادة تدوير وليس تكوين السلطة بانتخابات ستخلو، إن حصلت، من الشفافية والنزاهة والفرص المتساوية.
في مقاربة جريمة المرفأ، ارى اننا فوتنا فرصة تحويل مظاهرة ٨ آب التي اعقبت تفجير النيترات المروع نحو استعادة زخم الانتفاضة على افق سياسي واضح. فقد غلب على التظاهرة المنحى السيادي باتهام حزب الله بالتسبب بالتفجير المدمر، كما بالتعتير المروع. إلاّ أنّ العبث بالتظاهرة والادارة الملتبسة لبعض المجموعات ساهمت بتبديد هذا التطور المهم، والذي كان سيعطي وزنا سياسيا مهما للمعارضة الشعبية، مما سينعكس على الحراك العربي والدولي وخصوصا الفرنسي.
ورغم اختلاف النظرة لطريقة ادارة التحقيق الذي يقوم به القاضي بيطار، بين مؤيد ومشكك ومتخوف، فان التهديد المتكرر له على لسان السيد نصرالله، وصولا لرسالة وفيق صفا، وما رافقها من صمت سياسي مدو، معطوفا على غزوة المازوت، يضع سقفا منخفضا للتوقعات الحكومية في المرحلة القادمة، دعنا من تدوير زوايا الميقاتي ومن تربيع دوائر أخرين. ولكم كان معبرا أن يغرد وزير العدل الاسبق شارل رزق والذي فاوض نصرالله مطولا على قانون المحكمة الخاصة بالحريري: مشيرا بأنّ تهديد القاضي بيطار يحسم نتيجة الانتخابات.
بالنسبة للازمة المالية والنقدية والمصرفية، فقد تحدثنا في كتابات سابقة عن تقاطع مصالح لثلاثي السلطة والمصرف المركزي والمصارف في اطفاء معظم الخسائر من جيوب المودعين، رغم بعض الخلافات والتباينات. كما أشرنا الى المسؤولية التي تتحملها كافة المعارضات، المنشغل بعضها بتكوين لوائح التغيير وبعضها بتدبيج بيانات التحرير، غافلين عن إنشاء هيئة تنسيق تتصدى لعملية الاجهاز على مدخرات المودعين المرمية رقابهم تحت مقصلة الهيركات ولكوارث الدعم الكاذب على اللبنانيين. علما أنّ قرار المجلس المركزي الأخير بتمديد اعتماد ٣٩٠٠ل ل لسعر الدولار ب151 رغم عراضات لجنة المال الجوفاء وصرخة رابطة المودعين المحقة، يشكل امعانا سافرا في إيذاء المودعين.
ومع ذلك نبدي بعض الملاحظات
١- إنّ حجة عدم تضخيم الكتلة النقدية مزيفة ومردودة، اذ يمكن ان يكون سعر الصرف طبيعيا ويكون المبلغ المسموح سحبه بالدولار اقل. كما أنّ اعتماد تعميمين وطبيعتين وسعرين لدولار المودعين(من غير الحسابات الجديدة)هوغير دستوري، ويخفي نيات مبيتة.
٢- إنّ السماح لمعتمدي التعميم ١٥٨ باعتماد ١٥١من بنوك ثانية هو كدس السم في العسل، لأنّه يؤدي لإغرائهم وإطفاء مزيد من الخسائر بهيركات كبير وطبع عملة؟ والأفضل توحيد التعميمين وزيادة إعطاء الدولار من التوظيفات الإلزامية، أما الإيجابية النسبية في موضوع استمرارية الحسابات من أجبل تطبيق 158، فستخضع حتما لعملية تدويخ في المصارف التي تتعاطى مع المودعين كأخصام وليس كعملاء .
٣-إنّ الدعم الملتبس ما زال مستمرا. و”أول دخولها شمعة على طولها” فقد قررت الحكومة إعطاء ١٠٠ مليون دولار لوزير تيار العتمة، فمن اين سيأتي سلامة بالدولارات؟ من المودعين البسطاء، ام من “السوق السوداء”ام من تحويلات الأهالي؟ أم من حقوق السحب الخاصة؟
٤- اريد ان اسأل الصديق نجيب ميقاتي: ماذا ينفع تأكيدك لحماية صغار المودعين، اذا كان معظمهم ستنشف ودائعه قريبا باستمرار الهيركات الكارثي. فالمودع يبيع دولاره في البنك منذ صدور151، إماّ لحاجة أو لخوف لأنّ الثقة مفقودة، ولا ينقص دولتك الحس الحسابي.
وأخيرا أرى، أنّه يستحيل التحرير أوالتغيير دون فرملة التعتير. وهذا يقتضي مواجهة ادارة التوحش التي تقضي على مقومات وميزات هذا البلد، وتحول ناسه الأحرار الى العوز والذل، ما يضعهم امام الهجرة او الخضوع والتكيف. وهي مواجهة يومية وموضعية وقطاعية ايضا، وليست فقط مواجهة ام المعارك، التي تتحول نخبوية وربما دونكيشوتية دون جماهير ودون برنامج مواجهة، يضع السيادة والدستور في رأس القائمة، دون ان يغفل عمليا ما يتعرض الله المواطنون من قهر واذلال وسرقة في حياتهم اليومية.
*طرابلس