مع اقتراب الموعد المعلن من قبل واشنطن لسحب قواتها من الأراضي الأفغانية بموجب الاتفاق التي أبرمته إدارة الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب مع حركة طالبان في الدوحة في فبراير 2020، يثور تساؤل عن الكيفية التي ستتصرف بها إدارة الرئيس بايدن في حالة انهيار حكومة كابول الحالية بزعامة الرئيس « أشرف غني » وسيطرة الطالبانيين على السلطة وقيامهم باستعادة علاقاتهم القديمة مع تنظيمي القاعدة وداعش الإرهابيتين.
قائد القيادة المركزية الأمريكية الجنرال كينيث ماكينزي قال مؤخرا خلال جلسة استجواب في الكونغرس الأمريكي أن قرارات أتخذت لإبقاء جزء من القوات الأمريكية في قاعدة عسكرية قريبة من أفغانستان بعد إتمام عملية الانسحاب الكامل من أفغانستان في الحادي عشر من سبتمبر القادم من أجل مراقبة التطورات في الأخيرة عن كثب والتدخل إذا ما استدعت الظروف. بل أن ماكينزي راح أبعد من ذلك حينما أكد أن إدارة الرئيس جو بايدن منخرطة في مشاورات مكثفة مع عدد من الدول المجاورة لأفغانستان بهدف رصد أي تحركات محتملة لميليشيات القاعدة وداعش الإرهابية على الأرض الأفغانية وضربها من الخارج فورا.
يمكن القول أن هذا التصريح تحديدا هو الذي أثار تساؤلات كثيرة حول مكان القاعدة العسكرية القريبة التي أشار إليها الجنرال ماكينزي، حيث توقع بعض المراقبين أن يكون البلد المقصود هو باكستان، خصوصا وأن الأخيرة هي المكان الأقرب والأنسب والأكثر نموذجية لغرض رصد التطورات الأفغانية ومتابعتها والتدخل الفوري فيها، دعك من حقيقة معرفة القوات الأمريكية بها بسبب العلاقات العسكرية والأمنية الطويلة والقديمة بين واشنطن وإسلام آباد. وفي هذا السياق يمكن الإشارة إلى « قاعدة يعقوب آباد » في إقليم السند التي ظل الأمريكان وحلفاؤهم يستخدمونها منذ عام 2001 لتقديم الدعم اللوجستي للقوات الغربية العاملة في أفغانستان، خصوصا وأنها مصممة لإستقبال طائرات النقل الأمريكية الضخمة.
ولعل ما عزز هذه التساؤلات وتلك التوقعات هو الأتصال الهاتفي الطويل في إبريل المنصرم بين وزير الدفاع الأمريكي “لويد أوستن” وقائد الجيش الباكستاني الجنرال “قمر جاويد باجوا”، والذي بررته المصادر الأمريكية والباكستانية بأنه كان “لبحث العلاقات الثنائية وضرورة العمل معا من أجل الإستقرار في منطقة جنوب آسيا وتحقيق الأهداف الإقليمية المشتركة”. ومن يقرأ الجزئية الأخيرة بتمعن في ضوء التطورات الأفغانية المتسارعة، لابد وأنْ يستنتج أن الإتصال الهاتفي تناول ما قد ينجم عن انسحاب القوات الأمريكية وقوات الناتو من أفغانستان من مخاطر وتحديات وكيفية مواجهتها. ثم جاء قرار إسلام آباد بافتتاح قاعدة عسكرية جديدة في ناصر آباد بإقليم بلوشستان ليرسخ الإشاعات والتوقعات ذات الصلة أكثر فأكثر.
لكن السؤال الذي يطرح نفسه في ضوء هذه الأنباء هو هل ستخاطر باكستان بعلاقاتها الاستراتيجية الوثيقة مع الصين من أجل الولايات المتحدة والغرب، في وقت يشتد فيه التنافس والخلاف الأمريكي ــ الصيني؟ بل هل سيسمح الصينيون الذين صاروا المصدر الأهم للمساعدات العسكرية والاقتصادية لباكستان منذ عام 2016 (السنة التي أوقفت فيها واشنطن تعاونها العسكري مع إسلام آباد) بأن يستخدم الأمريكان قاعدة هم من بنوها وصمموها وانفقوا عليها لأغراضهم الإستراتيجية الخاصة مثل « قاعدة ناصر آباد »؟
لا يملك المحللون والمراقبون أي جواب حتى الآن باستثناء أن باكستان قد تلجأ إلى سياسات برغماتية بهذا الخصوص، من أجل الإستفادة من بكين وواشنطن معا، رغم أن مثل هذه المحاولة صعبة ومحفوفة بالمخاطر وقد لا تنجح، علما بأنها حاولت انتهاج مثل هذا النهج دون نجاح مع الأمريكان والسوفييت زمن الحرب الباردة، وتحديدا بعد « إتفاقية طشقند » لعام 1966 التي انهت الحرب الباكستانية الهندية الثانية بجهود دبلوماسية قادها وقتذاك رئيس الوزراء السوفياتي أليكسي كوسيغين.
المعروف أن بكين قلقة أيضا من احتمالات صعود طالبان إلى السلطة في كابول وعودتها للتعاون مع تنظيمي القاعدة وداعش اللذين لن يترددا ــ إذا ما اتيحت لهما الفرصة ــ في دعم الحركة الإسلامية الإنفصالية في إقليم تركستان الشرقية الصيني. هنا قد تستخدم باكستان هذه الورقة لإقناع الصين بأن تقديم تسهيلات عسكرية للقوات الأمريكية سوف يصب في صالح وحدة الأراضي الصينية وضمان استقرارها ويعفيها من مسؤوليات وتكاليف أي مواجهة مع حركة طالبان وانصارها من ميليشيات القاعدة وداعش. غير أن عملية الإقناع هذه تبدو صعبة ومعقدة في ضوء عدم ثقة بكين بواشنطن وحساسية الأولى من الإبقاء على أي تواجد عسكري أمريكي قريب من حدودها الغربية. إذ يكفيها ما هو موجود منه على حدودها الشرقية في تايوان واليابان وكوريا الجنوبية. كما أن أي تسهيلات عسكرية للأمريكان في باكستان تبدو لبكين إمتدادا للإستراتيجيات الأمريكية الهندية المضادة للصين.
جملة القول أن موافقة باكستان على الطلب الأمريكي سيفيدها لجهة تجديد تعاونها العسكري مع الولايات المتحدة وحصولها على معدات عسكرية دقيقة هي في أمس الحاجة إليها. لكنها، في المقابل، ستخسر الصين كحليفة كبرى موثوقة، وستواجه في الداخل جماعات سياسية مناهضة أصلا لأي تقارب مع الأمريكان. وهذا ما لا تريده حكومة رئيس الوزراء عمران خان.
*أستاذ العلاقات الدولية المتخصص في الشأن الآسيوي من البحرين