في مقالات عديدة سابقة قلنا، على هامش التحركات الامريكية لعقد اتفاقية سلام مع حركة طالبان الافغانية، إن إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب ترتكب خطأ فادحا لو اعتقدت أن مثل تلك الإتفاقية سوف تحقق السلام في أفغانستان.
أو لو افترضت أن الطالبانيين قد تعلموا الدرس وغيروا أهدافهم وأجنداتهم البائسة. وأضفنا أن حركة طالبان لا يهمها السلام أو حق الإنسان الأفغاني في أن يعيش في أمان كبقية شعوب الكون، وإن ما يهمها فقط هو العودة مجددا إلى السلطة للتحكم في البلاد والعباد وفق رؤى وأيديولوجيات عفا عليها الزمن.
واستطردنا أن أي صفقة مع هذا التنظيم الاجرامي، أيا كانت المبررات، سوف تفشل لا محالة وتمثل إهانة لأرواح عشرات الآلاف من الأبرياء الأفغان وغيرهم ممن قتلتهم الحركة بدم بارد، وتشكل إضفاءً للشرعية على جماعة إرهابية لفظها العالم بأسره جراء حماقاتها وفرماناتها الوحشية وانتهاكاتها لأبسط حقوق نساء ورجال وأطفال أفغانستان على مدى سنوات وجودها في السلطة ما بين عامي 1996 و2001. وهي سنوات عجاف حدث فيها ما لا يمكن وصفه من أحداث بشعة بعلم وإرادة ما كان يسمى “إمارة افغانستان الإسلامية” وزعيمها المتطرف “الملا محمد عمر اخترزاده”. هذا ناهيك عما فعلته إمارة طالبان من احتضان تنظيم القاعدة الإرهابي وتوفير الملجأ لقادته، وتدخلها في شؤؤن الدول المجاورة.
والمعروف أن إدارة ترامب، ولأسباب إنتخابية داخلية، تجاهلت كل التحذيرات، بما في ذلك تحذير مستشارها للأمن القومي “جون بولتون” الذي قدم إستقالته احتجاجا في سبتمبر 2019.
مؤخرا ثبتت على أرض الواقع صحة ما قلناه، حيث انتهزت الحركة الإرهابية إنشغال حكومة كابول بتجنيد كل طاقاتها المتواضعة لمواجهة وباء كورونا المستحدث، وانشغال الولايات المتحدة بأوضاعها الصحية الداخلية المتفاقمة جراء انتشار الفيروس الصيني المعدي، لتجدد نشاطها الإرهابي، ضاربة بعرض الحائط كل ما اتفقت عليه مع واشنطون، ومؤكدة للعالم للمرة الألف أنها نبتة شيطانية سامة معوجة لا سبيل لتقويمها أو تجميلها. أما الهدف الذي إختاره الطالبانيون هذه المرة فهو الآخر دليل إضافي على وحشيتهم ولا إنسانيتهم. وهل هناك وحشية أكثر من إستهداف مشفى للأطفال الرضع والنساء الحوامل في وقت يعمل فيه العالم بأسره لبناء المشافي وتوفير العلاجات ومحاربة الأوبئة، وهل هناك إجرام أكثر من إستهداف أبرياء عزل كانوا في جنازة لدفن أحد أقاربهم من ضحايا الوباء الصيني.
نعم. هذا الذي حدث في الثاني عشر من مايو المنصرم حينما هاجم مقاتلو طالبان في وضح النهار مستشفى للتوليد في كابول العاصمة فقتلوا 14 من الأطفال حديثي الولادة وأمهاتهم وعددا من الممرضات، بينما تمكنت إحدى المتعالجات من النجاة بأعجوبة، فتبرعت بمهمة إرضاع 20 طفلا ممن فقدوا أمهاتهم.
ويبدو أن القتلة لم يرتو غلهم وحقدهم بفعلتهم الشنعاء هذه، فواصلوا طريقهم لإستهداف جنازة في منطقة مضطربة إلى الشرق من العاصمة حيث حصدوا أرواح 24 مشيعا.
وبطبيعة الحال، وكما اعتادت، ومثلما لا يـُنتظر من القاتل الإعتراف على نفسه، نفت حركة طالبان في بيان لها مسؤوليتها عن أي من جريمتين، متهمة حكومة كابول بأن إتهامها للحركة وتنظيمي داعش والقاعدة بالوقوف خلف العمليتين محض إفتراء ويرمي إلى تهييج الأفغان ضدها. ياللوقاحة! أما تنظيم داعش الإرهابي المتحالف أو الداعم لطالبان فقد اكتفى بالإعلان عن مسؤوليته حول حادثة الجنازة، نافيا عن نفسه الضلوع في جريمة المستشفى، فياللوقاحة مرة أخرى.
وككل حكومة تحترم نفسها، وعملا بما أعلنه الرئيس الأفغاني أشرف غني بـُعيد صفقة السلام الأمريكية ــ الطالبانية في فبراير الماضي من أن حكومته لن تلجأ إلى القوة ضد ميلشيات طالبان إلا للدفاع عن نفسها وشعبها، أمرغني قواته بالرد على أي هجمات بغض النظر عن مصدرها، فيما ردت طالبان عبر بيان صادر عنها بالقول أنه “من الآن فصاعدا تصبح حكومة كابول هي المسؤولة عن تصعيد العمليات القتالية”، وهذه وقاحة ثالثة لأنه بات معروفا أن طالبان لم تلتزم حرفيا ببنود صفقتها مع الأمريكان. ذلك أن ما فعلته منذ دخول الصفقة حيز التنفيذ لا يرقى إلى مستوى وقف العنف وتهيئة الأجواء لسلام مستتب دائم، بل لجأت مذاك إلى شن هجمات متفرقة في الأقاليم النائية خارج العاصمة، وما تحاشت عنه طمعا في كسب ود واشنطون أوكلت تنفيذه لحليفيها (داعش والقاعدة).
الغريب، أنه رغم كل ما حدث، لا يزال وزير الخارجية الأمريكي “مايك بومبيو” مصرا على حث طالبان وحكومة كابول لجهة مواصلة وإنجاح صفقة السلام الهشة الغامضة، في الوقت الذي لا يكف فيه مبعوث واشنطون الخاص إلى أفغانستان “زالماي خليل زادة” عن كتابة تغريدات يقول فيها ما مفاده أن فشل صفقة السلام معناه ترك أفغانستان مكشوفة أمام الإرهاب والتفكك والمزيد من الدمار الإقتصادي، ولكأنما الصفقة لم تفشل أو أن أفغانستان لم تعد مرتعا للإرهاب ومدمرة معيشيا واقتصاديا.
Elmadani@batelco.com.bh
*أستاذ العلاقات الدولية المتخصص بالشأن الآسيوي من البحرين