لقد أحدث نهوض الصين هزة عالمية كما توقع الان بريفيت، اذ ساهم في انهاء احادية القطب الاميركي وفي اعادة تشكيل التكتلات الاقتصادية والجيوسياسية، مما القى بظله، حتى على بلد صغير كلبنان، خصوصا انه يقع في قلب المشرق الدائم الالتهاب والحاضن للثقافات والثروات والصراعات، والذي يمر بمخاض عسير ومؤلم.
واذ تعصف ببلاد الارز اسوأ ازمة اقتصادية ومالية ونقدية منذ نشوئها مع اقتراب مئوية تأسيس الكيان، فانها تترافق مع ازمة سياسية شديدة، مما يعرض طبيعة وميزات وكيان البلد لأخطار جمة.
يقول نصرالله في احد مطارحاته بانه يمكن اللجوء للصين للمساهمة في حل ازمات لبنان الاقتصادية كبديل عن الاقتصاد المرتبط بالغرب. ورغم كثرة الردود التي انهمرت عليه، فإن الرد الأوضح جاء على لسان الصينيين الذين قالوا، بانهم غير راغبين للحلول محل الغرب في لبنان.
ورغم ان انتفاضة الغضب التي انفجرت في ١٧ ت١ حملت عناوين اقتصادية واجتماعية، واعتبرت ان سياسة المحاصصة والزبائنية والفساد هي المشكلة، رافعة شعار “كلن يعني كلن”؛ ومع ان اغلبية القوى والمجموعات والاحزاب المشاركة في الانتفاضة تعامت عن الخطر السياسي الاساسي المتمثل بتحكم حزب الله وسلاحه بالبلد حتى انه اوصل مرشحه “بالقوة المشرعنة” الى رئاسة الجمهورية بعد فراغ سنتين ونصف، فان الثنائي الشيعي واجه المنتفضين منذ البداية اهانة ونصحا، تهديدا وكسرا ، تحويرا وتوجيها، علما ان مجموعات، بعضها ايديولوجي وبعضها مخترق، ساهمت بتسهيل سياسة الحزب. بما فيها توجيه المنتفضين نحو المصارف، وهو ما تحول الى تخريب تحت مسمى العنف الثوري، خصوصا في المناطق الهشة وذات الغالبية السنية، والتي تعاني لبنانيا وفي الإقليم من مظلومية عالية،كما حصل في ايقونة الانتفاضة طرابلس.
وحزب الله تحول من متحكم الى حاكم وصاحب اكثرية، بعد اجراء انتخابات بقانون هجين ارثوذكسي/نسبي، وهو قانون تنازل به البعض مرغما او مستسلما، بينما انتشى به البعض الاخر بزيادة بضعة مقاعد، لان هاجسه اصبح في صراع السيطرة على الشارع المسيحي او ما تبقى منه.
وهذا ما يفسر ولو جزئيا تجدد طروحات الفدرالية واللامركزية المالية على لسان ملحم رياشي وألسنة باسيل واسود، مصحوبة بمناوشات على تخوم “مار مخايل/ الأقليات” بالحديث عن علاقة السلاح بالفقر والانماء المتوازن في سلعاتا!! ما استدعى التذكير بإلغاء الطائفية السياسية من قبل الرئيس بري وبأشرس حملة على الميثاق والكيان والطائف من قبل المفتي الجعفري احمد قبلان.
لقد شكلت سياسة التعامي عن مسؤولية حزب الله الاساسية في وصول البلد الى حالة الانهيار خطأ سياسيا فادحا، لانه ترك المنتفضين دون سقف سياسي فعلي. كما اوصل البلد الى حكومة اللون الواحد العاجزة عن انجاز اختراقات اساسية في مواضيع الاصلاح، خصوصا في الادارة المنتفخة والتي استعيض عن دور مديريها تباعا بالمستشارين في معظم الوزارات، خصوصا في وزارة الطاقة التي تحولت الى خنجر مسموم في خاصرة اللبنانيين.
وللتذكير فقد ادت سياسة قوى ١٤ آذار في انشاء الحلف الرباعي مع حزب الله وامل لتطمين الحزب والبيئة الشيعية تمهيدا للبننته على ما قيل، الى استثمار عوني للمظلومية المسيحية والى انعاش الحزب القلق من ثورة الأرز، والذي سرعان ما انقلب على الحلف ووضع البلد كله كورقة تفجير وتفاوض بيد الولي الفقيه، مما نزع عن لبنان بعضا من مناعة اكتسبها في مرحلة التسعينيات، بعد تفجر الفالق السوري وبدء تراجع النمو ومراكمة العجز.
وقد ساهم في تعميق الأزمة اندفاع الحاشية العونية للاستفادة ما امكن من “ذمية مار مخايل” في التوظيف والتعيين والتلزيم، خصوصا بعد انتخاب الجنرال عون واستفحال المحاصصة والزبائنية.
منذ نصف قرن والبلد يتعرض للأزمات والحروب، بينها حروب اهلية مطعمة فلسطينيا وسوريا، واجتياحات اسرائيلية. وبعد اتفاق الطائف تحول الاحتلال السوري بتغطية اميركية الى “وجود شرعي وضروري ومؤقت”. وبعد طرد الاحتلال على دم الشهيد الحريري وانتفاضة الارز، وقع لبنان تحت السيطرة الايرانية بواسطة ميليشيا حزب الله.
لبنان “بيت بمنازل كثيرة” على ما يقول المؤرخ الراحل كمال الصليبي. أما السلطة فقد أصبحت بيتا بطابقين، طابق يسكنه حزب الله لوحده و يتحكم منه بالحرب والسلم، وطابق يتشاركه مع الأحزاب الطائفية، ويحكمه بواسطة اكثرية برلمانية، راعيا ومشاركا في الفساد السياسي والمالي.
ورغم ان نصرالله أجاز مؤخرا لحكومة دياب التفاوض مع صندوق النقد الدولي، فإنه أعاد الحديث عن الاقتصاد المشرقي، مشيرا إلى التوجه نحو العراق وايران، وصولا للصين، ومركزا على العلاقة مع سوريا رغم انكشاف فداحة وطبيعة التهريب، بعد ان كشف رياض سلامة رقم ٤ مليارات سنويا من تهريب المواد المدعومة، ليتبين ان لبنان المنكوب يدعم اقتصاد النظام السوري (علما ان هناك تهريبا معاكسا يصيب المزارعين اللبنانيين كما يصيب التجار والصناعيين ايضا)، وليتكشف ان الاقتصاد المشرقي المزعوم هو الاقتصاد الموازي القائم على الاقتصاد النقدي والتهريب والتهرب الجمركي على أنواعه وتجارة المخدرات وبيع الأوهام.
والمثير للانتباه، ان رئيس الحكومة شن حملة على رياض سلامة لدعمه الاقتصاد الريعي، خصوصا تثبيت سعر الليرة، فاذا به يعتبر اتفاقه مع سلامة للتدخل في سوق القطع،كما عبر مزيد من دعم الاستيراد، وطبعا من اموال المودعين ومما يرسله اللبنانيون من fresh moneys لاهاليهم، انتصارا للحكومة.
لن ادخل في تشريح خطة التعافي الحكومية، فقد قيل فيها اكثر ما قاله مالك بالخمرة، خصوصا من اصحاب الاختصاص.
لكن سأشير الى مسألتين:
الاولى تتعلق بموضوع الخسائر والارقام.
الاولى تتعلق بموضوع الخسائر والارقام.
ذلك انها ترمي لتحميل المصارف والمودعين تعويض هذه الخسائر والتي هي فعليا ديون على الدولة ناتجة عن فساد وهدر وسوء ادارة مالية وسياسية فضلا عن كلفة تثبيت سعر الصرف، ومنها أيضًا تسليفات البنوك للقطاع الخاص.
ثانيا؛ يبدو صندوق الأصول في السياق والأهداف وكأنه صندوق اقتصاد عوني يحاكي الاقتصاد الموازي، كما بدا من طرح باسيل وعزفه الانتهازي على وتر الاقتصاد المشرقي. ويمكن الاستنتاج باننا امام مشروع مشبوه للمصارف بدور جديد وإدارة جديدة تتناسب مع تغيير طبيعة البلد وتحت مسمى الهيكلة.
وقد شكل قانون إلغاء السرية المصرفية اول بوادرها. مما يضاف إلى الأخطار التي تتهدد الجامعات والمدارس والمستشفيات وكل ما ميز هذا البلد الصغير.
ومن المعيب ان بعض المستشارين حمل طريقة عيش اللبنانيين مسؤولية تردي الوضع المالي، ومنهم من طالب اللبنانيين بالرجيم، خصوصا ان خطة الحكومة تعد بتقشف طويل الامد، حتى ان زوجة رئيس الحكومة وجدت حلا للسيدات يقوم على تنظيف البيوت نهارا وللرجال يقوم على العمل في المحطات ليلا ونهارا.
حبذا لو يتذكر هؤلاء الطارئين ان لبنان كان مزدهرا حين كان سيّداً (حل لبنان سابعا في ترتيب معدل دخل الفرد سنة ١٩٥٥)، ورغم التوزيع غير العادل للثروة ورغم طبيعة النظام السياسي الطائفي، الا ان النضال الديمقراطي، المتاح و المنتزع،استطاع احداث بعض التعديلات والاختراقات، وهو ما كان مستحيلا في انظمة الممانعة التي قامت على البطش والإجرام وازدراء المواطنين.
قد يلتبس الدفاع عن القطاع المصرفي بالدفاع عن المصارف واصحابها، خصوصا ان معظم هؤلاء بالغ في تحميل ازمة السيولة، (الناتجة عن فساد وسلبطة السلطة وعن جشع وتواطؤ معظم اصحاب المصارف)للمودعين العاديين، بينما سهل للمودعين والمساهمين “الأقوياء” تحويل او تهريب بعضا من أموالهم للخارج، علما ان رئيس جمعية المصارف الأسبق فرانسوا باسيل حذر في ٢٠١٤ من استمرار تمويل المصارف للعجز المتصاعد نتيجة وقف التدفقات المالية العربية والدولية، ما عرضه للتهديد والملاحقة القضائية.
لسنا بحاجة لقراءة ادم سميث أو كارل ماركس لنكتشف أهمية المصارف التجارية في نشوء الاقتصاد الرأسمالي، حيث شكل ابتداع “فكرة الاعتماد” مفتاح هذا الاقتصاد والذي نقل القرض من الدور الربوي الى الدور الاستثماري، فاتحا الطريق نحو النمو والبناء والتحديث.
وحزب الله لا يملك مشروعا سياسيا فعليا، وهو لا يملك مشروعا اقتصاديا، رغم التلويح بالذهاب شرقا باتجاه الصين و شمالا مع الروس، وهو يعرف ان بضاعة المقاومة فد كسدت من زمان، رغم ادعاء نصرالله بانه اقترب من الصلاة في القدس.
فالصين تستثمر في اسرائيل ٢٥ مليار دولار وليست متحمسة في لبنان، الا لبيع بضائعها الضعيفة الجودة. وروسيا اكثر التصاقا بإسرائيل وتطلق يدها في الجو السوري، حيث يعاني الاسد حتى داخل بيئته وعائلته، وسيؤدي قانون قيصر لمزيد من العزلة، وراعيته ايران تفاوض الاميركيين في مسقط رغم المشاغبة في فنزويلا. واما التهديد بالالغاء والغلبة فلن يؤدي سوى لمزيد من الاخطار على بيئة الحزب، ولذلك يحاول مراكمة التغييرات، اقتصاديا وسياسيا وثقافيا لفرض واقع على الأرض ، ويعمل لمقايضة الرئاسة بالدستور حين يحضر اوانها، قبل ان تتغير الموازين ويفوت الأوان ويصبح حتى مقايضة السلاح بالدستور مستحيلة، اذ قد يتحول إلى خردة غير نافعة في البازار الإقليمي والدولي.
من هنا ضرورة التمسك باتفاق ودستور الطائف كورقة القوة اللبنانية الدستورية الأساسية والتي كلفت الكثير، فضلا عن التمسك بالقرارات الدولية ١٧٠١ و١٦٨٠ و١٥٥٩.
ومن هنا نرى أيضا ان على المنتفضين ( او الثوار) ان يعيدوا توجيه البوصلة باتجاه خطر حزب الله وسلاحه، ونرى بوادر ذلك، ويتفادوا الوقوع في الافخاخ، ومنها فخ اللجوء للعنف، وفخ الانجرار لمواجهة الجيش والقوى الامنية، بمسعى من “ثوار حزب الله”.
كما انه لا يمكن لأحزاب المعارضة الرسمية ان تكون ميني سيادية وتتقوقع ضمن حسابات مذهبية ومناطقية، اذ ان الخروج من ازماتها مرتبط بإعادة تظهير موقفها السيادي من سلاح ودور حزب الله كذراع ايرانية، خصوصا على أبواب إصدار حكم المحكمة الدولية الخاصة.
فالمواجهة السياسية الصحيحة هي المفتاح لإعادة التقاط طريق الإنقاذ المالي والاقتصادي، اذ تعيد فتح رئات البلد على المجتمعين العربي والدولي، كما تعيد إطلاق الحيوية اللبنانية الاقتصادية، خصوصا في مجال التكنولوجيا الناعمة وفي غيرها من مجالات الابداع والانتاج، بما فيها الانتاج والتصنيع الغذائي والزراعي والسياحي.
فالمواجهة السياسية الصحيحة هي المفتاح لإعادة التقاط طريق الإنقاذ المالي والاقتصادي، اذ تعيد فتح رئات البلد على المجتمعين العربي والدولي، كما تعيد إطلاق الحيوية اللبنانية الاقتصادية، خصوصا في مجال التكنولوجيا الناعمة وفي غيرها من مجالات الابداع والانتاج، بما فيها الانتاج والتصنيع الغذائي والزراعي والسياحي.
الطريق شاقة ومحفوفة بالمخاطر، وتتطلب تجميع عناصر الاستعصاء اللبناني والتي أضافت لها انتفاضة ١٧ تشرين قوة شبابية هائلة وغير مكترثة بالطائفية والفئوية والمناطقية، وهي تمتلك الطموح والجرأة، وفيها من الخبرات والثقافة ما يؤهلها لأدوار مهمة ومتنوعة في المواجهة الصعبة.
والمواجهة تتطلب التمتع بالحكمة والنفس الطويل، خصوصا مع تفاقم الأوضاع المعيشية وأخطار الانفجارات الاجتماعية التي ستنتج عن بطالة غير مسبوقة مترافقة مع منسوب عال من الفقر والبؤس والعوز، بالتوازي مع تصاعد اساليب القمع والبلطجة والتشبيح.
talalkhawaja8@gmail.com
ظرابلس