إرتبط إسمه في أكثر من واقعة بعمليات تعتيم للحقائق أو إطلاق تصريحات غير مسؤولة
ليس السياسي والاكاديمي الاريتيري الأصل الإثيوبي الجنسية “تدروس أدهانوم غبريسوس، المولود في أسمرة سنة 1965، الأفريقي الوحيد الذي قاد منظمات دولية ووضع نفسه موضع الشبهة والجدل أثناء عمله الأممي. فقد سبقه السنغالي أحمد مختار أمبو الذي قاد منظمة اليونسكو في الفترة من 1974 إلى 1987 وتسبب بسوء إدارته في إفلاس هذه المنظمة الثقافية، وبالتالي قرار كبرى الدول المساهمة في ميزانيتها (الولايات المتحدة الأمريكية) الانسحاب منها. كما سبقه الغاني كوفي عنان الذي تورط إبنه جوكو (ربما بمساعدة من أبيه) في وليمة “النفط مقابل الغذاء” وكوبوناتها في التسعينات.
واليوم يأتي أدهانوم، وهو أول مدير إفريقي لمنظمة الصحة العالمية، وأول مدير ينتخب من قبل الجمعية العمومية للمنظمة وليس عن طريق مجلسها التنفيذي، ليكمل مسلسل الفضائح. فالرجل الذي صار اليوم إسما متداولا في وسائل الإعلام منذ أن إتهمه الرئيس الأمريكي دونالد ترامب مؤخرا بالانحياز للصين والدفاع عنها والتعتيم على ما قامت به لجهة اخفاء انتشار فيروس مرض كوفيد 19، له سوابق كثيرة، ليس في الدفاع عن الأنظمة الديكتاتورية فقط وإنما أيضا لجهة إخفاء الحقائق أو تأجيل كشفها
لقد إنتخب أدهانوم مديرا عاما لمنظمة الصحة في مايو 2017 بأصوات 133 دولة من أصل 185، وسط طموحات بأن يغير هذا الأثيوبي الصورة السلبية لأفارقة المنظمات الدولية المتهمين بالفساد. خصوصا وأنه تبنى شعارات مثل: “سنتعامل مع حالات الطوايء في المستقبل بسرعة وفعالية ” في إشارة أنتقادية لسلفه الدكتورة صينية الأصل كندية الجنسية “مارغريت تشان” التي أتهمت بالإخفاق في محاربة تفشي وباء إيبولا في غرب أفريقيا عام 2013. ناهيك عن استخدامه للوعود بقوله “أعاهدكم بالوقوف إلى جانب حق الفقراء في الصحة“، موضحا “منذ سنوات توفي شقيقي الذي كان يبلغ آنذاك خمس سنوات بسبب حمى الحصبة، من ذلك الوقت أشعر بالظلم وبأن التباين في الرعاية الصحية بين العالم المتقدم والنامي غير مقبول على الإطلاق“.
كان اللافت وقت انتخابه أن زيمبابوي هي التي تقود الدول الأفريقية ودول العالم الثالث حملة جمع الأصوات لصالح الرجل، وأن الصين هي الدولة العظمى الأكثر حماسا لإنتخابه (ربما لأسباب أيديولوجية خاصة بعضويته السابقة في الحزب الشيوعي الأثيوبي). لاحقا قام أدهانوم برد الجميل لزيمباوي بإختياره للديكتاتور روبرت موغابي سفيرا لمنظمة الصحة العالمية للنوايا الحسنة، الأمر الذي تراجع عنه في أعقاب تعرضه لضغوط وانتقادات قوية من قبل العديد من الدول والمنظمات ووسائل الإعلام. وكان أدهانوم وقت تعيينه لموغابي سفيرا للنوايا الحسنة قد أشاد به وقال عن زيمبابوي أنها “بلد يضع التغطية الصحية الشاملة والنهوض بالصحة في صميم سياساتها لتوفير الرعاية الصحية للجميع“. وهو ما جعل البعض يسخر من كلامه، خصوصا وأن موغابي نفسه لا يستخدم النظام الصحي في بلاده ولا يثق به ويفضل عليه تلقي العلاج في سنغافورة. وتكرر إنتقاده مرة أخرى حينما عيّن الطبيبة الروسية تريزا كاسييفا لقيادة برنامج منظمة الصحة العالمية لمكافحة السل، متجاهلا مطالبة منظمات المجتمع المدني بضرورة اللجوء إلى عملية تنافسية شفافة للتعيين في مثل هذه المناصب.
نعم لقد رد أدهانوم الجميل لموغابي. والملاحظ أنه يرد الجميل اليوم للصين التي كانت الدولة العظمى الوحيدة التي أصرت على انتخابه، رغم أنه ليس طبيبا! وبالتالي فهو أول من يقود منظمة الصحة العالمية في تاريخها الممتد منذ 1945 دون أن يكون له علاقة بالطب، وإنْ كان يحمل شهادة الدكتوراه من جامعة بيرمنغهام البريطانية عن أطروحة بعنوان “آثار السدود على إنتقال مرض الملاريا”، وشهادات عليا في الفلسفة والعلوم والأحياء، علاوة على خبرة تراكمت من حمل حقيبة الصحة في بلاده في الفترة من 2005 إلى 2012 وتولي منصب وزير الخارجية الأثيوبية في الفترة ما بين 2012 و2016. وأيضا من توليه المناصب التالية: رئيس مجلس إدارة الصندوق العالمي لمكافحة الإيدز والسل والملاريا، رئيس مجلس إدارة شراكة دحر الملاريا، الرئيس المشارك لشراكة صحة الأم والوليد والطفل، عضو بمجلس التحالف العالمي للقاحات والتحصين، ومعهد القياسات الصحية والتقييم، ومجلس تنسيق شراكة مكافحة السل، ومعهد أسبن وكلية هارفارد للصحة العامة.
إن الحقيقة التي لا جدال فيها أن أدهانوم عمل الكثير لبلده ولعموم أفريقيا السوداء. فأثناء عمله رئيسا لمكتب الصحة الإقليمي في تكرينيا الأثيوبية في عام 2001 مثلا ساهم في القضاء على انتشار الإيدز في أثيوبيا بنسبة 22.5% وبنسبة 68.% في حالات إلتهاب السحايا، وأدخل تكنولوجيا المعلومات إلى معظم مستشفيات بلاده، ورفع نسبة التحصين ضد الحصبة للأطفال إلى 98%.
لكن، في مقابل هذه الإنجازات، ارتبط إسمه في أكثر من واقعة بعمليات تعتيم للحقائق أو إطلاق تصريحات غير مسؤولة. فقد أخذ عليه قبيل انتخابه لقيادة منظمة الصحة العالمية أنه تستر على ثلاث أوبئة محتملة للكوليرا في إثيوبيا في الأعوام 2006 و 2009 و 2011. إذ وصِف الأوبئة خطأً بأنها حالات من “الإسهال المائي الحاد” (أحد أعراض الكوليرا) في محاولة للتهوين من خطورتها، حيث ذكر مسؤولون بالأمم المتحدة آنذاك أنه كان من الممكن توصيل المزيد من المساعدات واللقاحات إلى إثيوبيا لو أنه تمّ تأكيد تفشي الكوليرا. وقد أنكر الرجل تلك الإتهامات وعدها محاولة رخيصة لتشويه سمعته. وفي ديسمبر 2019 وضع على الرف تحذيرا ورده من الحكومة التايوانية حول إحتمال تفشي وباء خطير في إقليم ووهان الصيني، ولم يأخذ به بحجة أن تايوان ليست عضوا في المنظمة ولديها نزاع تاريخي مع الصين. وأثناء توليه وزارة الخارجية في حكومة “هايلي مريام ديسالين” بدعم من حزب “الجبهة الثورية الديمقراطية الشعبية” الحاكم سنة 2015 وجه كلاما عدائيا ومهينا لمصر. إذ قال أن “مصر أضعف من أن تدخل حربا معنا” وذلك ردا على ما تداوله الإعلام المصري عن إمكانية توجيه ضربة عسكرية تدمر سد النهضة الأثيوبي في حال وصول المفاوضات بشأنه إلى طريق مسدود، وهو التصريح الذي أثار انتقادات كثيرة.
واليوم يتكرر توجيه الانتقادات مجددا لأدهانوم، بل هناك عريضة متداولة وقع عليها حتى الآن أكثر من 600 ألف شخص تطالب بإقالته من منصبه الدولي. فخلال جائحة كوفيد ــ 19 الحالية لم ينتقد بكين لاصراحة ولا تلميحا لتسببها في تفشي الوباء عن طريق تعتيمها على الحقائق. بل أنه لم يتعامل بحذر مع البيانات التي قدمتها بكين حول الفيروس. وفوق ذلك، امتدح الجهود الصينية في التجاوب مع انتشار الوباء وصرح في الأسبوع الأول من فبراير المنصرم بأن الأوضاع في الصين ليست مدعاة لإتخاذ تدابير وقائية ضد السفر والتجارة الدولية، مقللا من شأل الوباء واحتمالات تفشيه.
Elmadani@batelco.com.bh
*أستاذ العلاقات الدولية المتخصص في الشأن الآسيوي