إزاء التجاذب الدولي والإقليمي حيال شبه الجزيرة الكورية، خاصة بين واشنطن وبكين وموسكو وطوكيو، ستبقى هذه المنطقة أحد أبرز مراكز النزاع المحتملة لتحديد الأحجام في آسيا والعالم.
جرت الانتخابات التشريعية في كوريا الجنوبية، الأسبوع الماضي، في ظل أزمة فايروس كوفيد – 19، وكانت المفاجأة السارة للرئيس الكوري الجنوبي مون جاي إن الذي حقق حزبه الديمقراطي (وسط اليسار) وحليفه انتصارا كاسحا في الحصول على الأغلبية المطلقة في الجمعية الوطنية لأول مرة منذ 12 عاما.
في ظل إجراءات مترافقة مع تهديد كوفيد – 19 جرى تسجيل نسبة إقبال قياسية (66.2 في المئة)، وهي الأعلى في انتخابات تشريعية منذ 28 سنة. ومن الواضح أن سر النجاح الكبير يكمن في التقييم الإيجابي داخليا وعالميا للاستجابة وإدارة الأزمة في البلد الذي كان البؤرة الثانية لكورونا المستجد أواخر فبراير الماضي.
لكن لا يمكن إهمال أسباب أخرى تتصل بالأداء الاقتصادي الباهر وبالانفتاح على كوريا الشمالية. وعندما نعلم أن توحيد الكوريتين هو حلم وهدف المنتصر مون جاي إن، لا بد من مقاربة النموذج الكوري الجنوبي من ناحية انعكاس كيفية إدارة الأزمة الراهنة على مستقبل الأنظمة السياسية والانتخابات فيها، وكذلك من ناحية رسم التوازنات الآسيوية والعالمية المستقبلية.
لم تكن دروب الرئيس الكوري الجنوبي الحالي مفروشة بالورود. إنه ينحدر من كوريا الشمالية وابن أحد اللاجئين إلى الشطر الجنوبي، قضى أول سنين عمره مربوطا إلى ظهر أمه التي كانت تمتهن بيع البيض من أجل كسب لقمة العيش. وكشف مون، في كتاب نشره في 2017، أنه يحلم بالعودة إلى قرية هونغنام التي ينحدر منها والداه في كوريا الشمالية.
هذا الرئيس الآتي من المجتمع المدني ومن الحركة التي كافحت من أجل الديمقراطية في بلاده، ليس بذلك الداعية للسلام بسذاجة، إذ سبق له أن عمل مستشارا إلى جانب صديقه الرئيس السابق روح مون – هوين الذي ذهب في سنة 2007 إلى بيونغ يانغ والتقى برئيسها السابق كيم جونغ – إيل. وحينها أثمرت سياسة “أشعة الشمس” عن اتفاقيات تهدئة وتعاون أخذت تحول المنطقة العسكرية المنزوعة السلاح إلى حاضنة تقرّب تحقيق حلم إعادة توحيد الأمة الكورية.
كانت بدايات الصعود صعبة لمون بعد فوزه في انتخابات 2017، خاصة بعد الفضيحة التي عجّلت بإقالة وحبس الرئيسة السابقة بارك جون هاي بسبب إساءة استخدام السلطة. ونظرا إلى تباطؤ النمو الاقتصادي بالرغم من الاختراقات المستمرة كان مون جاي إن مهددا، وواجه انتقادات أخرى بسبب النتائج المتباينة لانفتاحه الدبلوماسي على بيونغ يانغ. لكن كل هذه الاعتبارات لم تؤثر بل كان الانقلاب لصالح يسار الوسط وأكثريته، إذ تحولت الانتخابات التشريعية إلى استفتاء – مبايعة للرئيس مون جاي إن في إدارة أزمة كورونا، والتي يُشار إليها كمثال على مستوى العالم، في وقت تقوم فيه كوريا الجنوبية بتصدير اختبارات إلى حوالي عشرين دولة.
كما تعززت ثقة الناخبين من خلال “دبلوماسية كورونا” لدى مون جاي إن، والتي تواصلت على نطاق واسع في مكالماته الهاتفية مع عدد من القادة الأجانب حول أفضل طريقة لمكافحة الفايروس. واللافت أن الرئيس سعى لتسويق نجاح الوباء على أنه “فرصة كوريا الجنوبية لإعادة هيكلة اقتصادها – من خلال الاستفادة من براعتها في صناعات مثل الذكاء الاصطناعي والصيدلة الحيوية”.
ومما لا شك فيه أن ربط النجاح الانتخابي بالاستجابة لإدارة الأزمة سينعكس على الانتخابات الأخرى في العالم ويمكن أن يصل إلى صلاحية الأنظمة السياسية ومفاهيم ما بعد الحرب العالمية الثانية. ويمكن أن تطال المحاسبة والمساءلة الكثير من الدول وأبرزها الولايات المتحدة التي تنتظر استحقاقها الرئاسي في نوفمبر القادم.
لكن بشكل أشمل سيكون المعيار في المدى القريب بلورة إستراتيجيات الوقاية ودرء الكوارث واعتبار الأوبئة تهديدا للاستقرار العالمي. وإلى جانب الاحتياجات الاقتصادية والجيواستراتيجية سيكون للاستثمارات في الصحة العامة ومكافحة التغير المناخي نصيبها من الأولويات في إعادة صياغة العولمة.
في ظل المتغيرات العالمية في اللحظة الراهنة الاستثنائية، يتم التركيز على لعب الصين دورا أكبر ومحاولتها إزاحة الولايات المتحدة في المقام الأول، لكن الجدل الحالي حول حجب المعلومات وعدم الشفافية وأصل الفايروس، أخذ يلقي بظله على مصداقية الصين وباقي الكبار تبعا لعدم إجراء تحقيق حيادي ونزيه يحدد المسؤوليات ولعدم قيام منظمة الصحة العالمية (المعاقبة من واشنطن بسبب تأخرها واتهامها بالتواطؤ مع الصين) بدورها والتركيز مثلا على النموذجين الناجحين في الجوار الصيني في بلدين ديمقراطيين هما تايوان (الصين الوطنية التي لا تنتمي إلى المنظمة بسبب الفيتو الصيني) وكوريا الجنوبية.
ولذا أتت انتخابات كوريا الجنوبية لتلفت نظر الجميع إلى أن القارة الآسيوية الشاسعة والكثيفة ديموغرافيا لا يمكن اختصارها بالصين (1.5 مليار نسمة من أصل حوالي 5 مليارات) أو بشمال شرق آسيا، إذ كيف يمكن إنكار الهند التي أخذت “تتفوق” ديموغرافيا على الصين، أو اليابان منافسة الصين التاريخية أو حتى النمور الصاعدة من سنغافورة إلى ماليزيا وغيرها؟ وبالطبع سيكون اللغز الكبير في ميزان القوى الآسيوي مستقبل شبه الجزيرة الكورية المعلق منذ خمسينات القرن الماضي.
ومع إعادة انتخاب جون ماي إن في سيول، يمكننا القول إن مسعى المصالحة مع الشطر الشمالي لم ينته، ونلاحظ أيضا أن الزعيم كيم جونغ أون المثير للجدل لم ينفذ تهديداته بإجراء تجربة نووية جديدة أو تجارب صواريخ بعيدة المدى بعد فشل قمته الأخيرة مع الرئيس الأميركي دونالد ترامب، ويبدو أن النهج المرن للرئيس في سيول حدا بزعيم بيونغ يانغ إلى الاعتدال وعدم المغامرة.
إزاء التجاذب الدولي والإقليمي حيال شبه الجزيرة الكورية خاصة بين واشنطن وبكين وموسكو وطوكيو، ستبقى هذه المنطقة أحد أبرز مراكز النزاع المحتملة لتحديد الأحجام في آسيا والعالم. بيد أن التوازنات الدقيقة بين اللاعبين المعنيين ستجعل القرارات دقيقة في تحديد الاتجاهات. وبانتظار تطور حاسم على صعيد تقارب أو توحيد الكوريتين، سيكون لكوريا الجنوبية دورها في رسم التوازنات الآسيوية المستقبلية، خاصة مع نجاحاتها الأخيرة.