لم تتبلور فكرة المساواة بين البشر إلا مع الثورة الفرنسية كي تتحول إلى حق من حقوق الإنسان. حينها أبصرت أولى القوانين الاجتماعية النور. كما شهدت سنوات ما بعد الحرب تطور الضمان الاجتماعي وتمويل أكبر للتربية وللصحة. وأقر مجلس النواب الفرنسي قانون التقاعد للعمال والفلاحين في العام 1910. كل ذلك أدى إلى تدني اللامساواة بشكل فعال في القرن العشرين وقبل الريغانية.
في لبنان بدأت حركة الاحتجاج الواسعة التي عمت الأراضي اللبنانية منذ17 أكتوبر بسبب انهيار الأوضاع الاقتصادية العامة التي أفقدت اللبنانيين مكتسباتهم وحقوقهم.
في هذا السياق، عقدت ندوة في بيت المستقبل تحت عنوان: المسألة الاجتماعية في زمن التقشف. حاضر فيها كل من رفيق سلامة، عضو مجلس الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي في لبنان، وحنين اسماعيل سيد مسؤولة برنامج البنك الدولي للتنمية البشرية لبنان وسوريا والأردن.
عرضت السيدة حنين الوضع في لبنان اعتمادا على أرقام مركز الإحصاء للعام 2011 ـ 2012 بسبب صعوبة الحصول على الأرقام في لبنان.
بيّن هذا الإحصاء أن نسبة الفقر المدقع للأسر (تحتاج إلى مساعدات غذائية) تبلغ 10 في المئة. أما نسبة الفقر الأعلى فتبلغ 25 في المئة، (يحتاجون الدعم على مستوى التربية والصحة والمنزل). وبينت عملية محاكاة simulation في العام 2018 للإحصاء الرسمي، مع احتساب 20 في المئة نسبة تضخم + الانكماش الاقتصادي 6,5 في المئة، أن نسبة الفقر المدقع تضاعفت إلى 20 في المئة والفقر العادي إلى 40 في المئة.
معنى ذلك أن هناك مليونا ونصف مليون شخص يعانون من الفقر و750 ألفا منهم في الفقر المدقع. كان الوضع خطيرا عام 2018 فكيف هو الآن؟ ما يعني أن أي تحول اقتصادي سواء مع صندوق النقد أو من دونه سيحمل سنوات عديدة من الانكماش الاقتصادي القاسية.
كل ذلك يوجب التفكير بشبكات الأمان والضمان الاجتماعي. وبالرغم من أن لبنان أقر الضمان الاجتماعي منذ ستينيات القرن الماضي، إلا أنه لم يؤمن المساواة والعدالة المطلوبتين. وفي ظل الأزمة هو “على غير ما يرام في لبنان” بحسب سلامة.
اعتمد لبنان منذ البداية نظام التضامن المهني لحماية الأجير، (وليس الديمقراطي كما في أوروبا مثلا حيث الضمان يشمل الجميع). هذا الضمان هو نظام اشتراكات (من رب العمل ومن العمال) وإدارة مشتركة للاستفادة من الاشتراكات التي تشكل نوعا من التأمين. في هذا النظام لا توجد شبكة حماية للطبقات الدنيا الأكثر احتياجا للمساعدة.
وواقع التأمين الذي يوفره الضمان الاجتماعي قريب من التأمين الخاص، فهو يرتبط بالأجر حصرا دون الأخذ بعين الاعتبار المخاطر الأخرى المحتملة. كما أن التعويضات غير مرتبطة حاجات الأسر ودخل الأجير. هي مبلغ مقطوع لا تأخذ بعين الاعتبار المدرسة أو الحاجات الأخرى. ونسبة الاشتراك هي نفسها لمن يبلغ راتبه مليون ليرة أو 10 ملايين بدون تفريق. والتعويضات ترتبط عكسيا، أي تزداد مع زيادة الراتب. وبالتالي تكون في أدنى مستوياتها للأجور الدنيا. العدالة تقتضي أن ترتبط التقديمات العائلية بالدخل وأن تزداد كلما كان الدخل أدنى.
يعمل الضمان الاجتماعي بتعويض نهاية الخدمة (كان اسمه قانون الصرف) بانتظار أن يطبق قانون ضمان الشيخوخة الذي اقترح مع تأسيس الضمان ولم ير النور بعد. ولقد قام في العام 2019 نسبة 55 في المئة من الأشخاص بصرف تعويضاتهم خوفا من الأزمة الاقتصادية وبلغ متوسطها 18 مليون ليرة (12 ألف دولار أميركي بحسب سعر الصرف حينها). وهو مبلغ زهيد!
أما قيمة التعويضات العائلية عام 2018 فبلغت 290 مليار ليرة قسمت على 267 ألف شخص. تكون حصة الواحد مليون ليرة سنويا. يعلق سلامة: “هذا ليس ضمانا اجتماعيا، هذا ضمان إفقار”. كما لا يوجد في الضمان نظام تقاعد للأجراء يشمل العجز (لمدى الحياة). هذا النوع من التقاعد يتمتع به موظفو القطاع العام حصرا والذي يوصف بالسخاء، لأنه يعكس فكرة مختلفة جذريا عن السابق: يبلغ عدد الموظفين 300 ألف (مع الأجهزة الأمنية والإدارات)، ويكلفون الدولة 3,5 في المئة من الناتج المحلي.
أما الوضع المخيف فيما يتعلق بالضمان الاجتماعي، أن أمواله لم تعد بحوزته. فهو دائن لأمواله (تبلغ 12 ألف مليار ليرة أي ما يعادل 8 مليار دولار بحسب سعر الصرف الرسمي). وظفت 55 في المئة من هذه الأموال في سندات الخزينة و45 في المئة ودائع في المصارف الخاصة. يُضاف لها الاشتراكات غير المدفوعة من قبل القطاع الخاص.
حسابات صندوق الضمان الاجتماعي لم تخضع للتدقيق المالي منذ العام 2011 حتى الآن كيلا تظهر الأخطاء الممارسة.
أمام هذا الوضع المتدهور، حيث اللامساواة من الأعلى في العالم بحسب خبراء الاقتصاد، ما هي الحلول الممكنة؟ وماذا لدينا من شبكات أمان؟
هناك برامج صغيرة ومركزة عبر جمعيات غير حكومية ومبادرات شخصية وقطاع خاص. لكن هل يمكن لهذا أن يلبي الحاجة؟ أطلقت الدولة عام 2011 برنامج استهداف للأسر الأكثر فقرا، استفادت نحو 40 ألف عائلة، وأعطيت 10 آلاف منهم بطاقة غذائية والباقي صحة واستشفاء ولوازم مدرسية.
تقترح حنين السيد تطبيق نماذج كتلك المطبقة على اللاجئ السوري على اللبنانيين. المهم في الأمر هو وضع آلية استهداف تقنية وإيجاد قاعدة بيانات وتحسينها لتشمل استهداف 600 ألف شخص. وهذا يحتاج إلى 200 مليون دولار سنويا، لحفظ الأمن الاجتماعي بحده الأدنى.
يجب الانتباه أيضا إلى التسرب المدرسي، خصوصا الذي يطال الذكور بعمر 13 عاما، إذ لا يكمل تعليمهم بعد الـ 18 عاما سوى 35 في المئة فقط من الطلاب.
وهذا التسرب خطير جدا على مستقبل لبنان، الذي عاش على رأسماله البشري، لأنه يخسر قدراته البشرية وهذا له تداعيات مستقبلية كبيرة. تزداد المشكلة الآن تفاقما إذ يطال العجز تأمين التزامات المدرسة الرسمية على ضآلتها.
الوضع في لبنان يتدهور على صعيد نوعية التعليم أيضا؛ ففي نتائج الامتحان الدولي بيزا PISA جاءت مرتبة لبنان 208 أي الرابع ما قبل الأخير. ذلك يعني أن نوعية التعليم تتردى بشكل كارثي.
هذا مع العلم أن ميزانية وزارة التربية تأتي بعد ميزانية وزارة الدفاع لجهة الإنفاق. بالإضافة إلى المساعدات المالية الكبيرة من الخارج للقطاع التربوي: أين النتائج؟ وأين تذهب هذه الأموال؟
ومع تفشي مرض كورونا، وعجز الدولة من اتخاذ قرار بوقف الرحلات من إيران، التي ترسخ فيها الوباء بحسب منظمة الصحة العالمية، وغيرها من الدول؛ لا يبدو لدى المسؤولين في الدولة اللبنانية أي خطة لمواجهة أي من هذه المخاطر.
بل وأكثر من ذلك، فتصريح رئيس الحكومة الأخير يبرهن مدى انعدام المسؤولية لدى السلطات: “الدولة اليوم في حالة ترهل وضعف إلى حدود العجز… والخوف يتمدد من الوضع المالي إلى الأوضاع الاقتصادية والواقع الاجتماعي والظروف المعيشية، وصولا إلى الهموم الصحية الداهمة (…) بكل صراحة، لم تعد هذه الدولة، في ظل واقعها الراهن، قادرة على حماية اللبنانيين وتأمين الحياة الكريمة لهم!”.
هذا ويتمسك بسلطة يشكو من فقدانها!
كان الله بعون لبنان واللبنانيين.
monafayad@hotmail.com