أزمة الشرعية تظهر في اقتصار قبول مجلس صيانة الدستور نصف المرشحين. والغريب أنه تم استبعاد 90 عضوا في البرلمان الحالي، كانوا مؤهلين للانتخابات السابقة.
بدأ العام 2020 قاسيا بالنسبة لإيران مع استهداف الفريق قاسم سليماني وردة الفعل المحدودة حياله، وإسقاط الطائرة الأوكرانية والاحتجاجات التي تلتها، مما دلل على قدر كبير من الهشاشة والاهتزاز في الداخل وفي مناطق النفوذ الإقليمي.
هكذا حلت الذكرى الحادية والأربعون لثورة 1979، في وقت تمر فيه البلاد بأسوأ الأزمات السياسية والاقتصادية والاجتماعية على الإطلاق منذ أربعة عقود. ومرت الاحتفالات من دون حماس شعبي، إذ يواجه النظام أزمة شرعية في الداخل وضغطا سياسيا واقتصاديا من الخارج لتعديل سلوكه.
وتأتي الانتخابات العامة في 21 فبراير وما سبقها من جدل وانقسام في المشهد السياسي، لتكشف عمق الأزمة البنيوية لمنظومة ولاية الفقيه التي أرساها الإمام الخميني، والتي تترنح في عهدة المرشد خامنئي في ما يشبه العد العكسي لنظام تبدو صلاحيته في طور الانتهاء.
خلافا لرهانات البعض وتمنياتهم، لم يسمح نظام “الثورة الإسلامية” بلعبة ديمقراطية أو شورى حقيقية. وكانت الانتخابات الرئاسية والبرلمانية والبلدية تحت سقف المنظومة، أقرب إلى الترتيب الداخلي ضمن دوائر الحكم.
وفي سياق “الهندسة الانتخابية” لضبط النتائج، تنص المادة 90 من الدستور على أن مجلس صيانة الدستور مسؤول عن الإشراف على الانتخابات. بينما تنص المادة 98 على مسؤولية هذا المجلس أيضا عن تفسير الدستور. وللتذكير، في عام 1991، نشر مجلس صيانة الدستور تفسيره لدوره في ما يتعلق بالانتخابات بالقول إن “الإشراف المذكور في المادة 90 من الدستور هو أمر توافقي ويشمل جميع مراحل الانتخابات بما في ذلك الموافقة على المرشحين أو عدم أهليتهم”.
وفقا لذلك، يتم فحص واختبار جميع المرشحين لأي انتخابات من قبل مجلس صيانة الدستور، وهو هيئة مؤلفة من 12 عضوا، يتم تعيين ستة منهم من قبل المرشد الأعلى بينما يتم تعيين الستة الباقين من قبل رئيس السلطة القضائية الذي يعينه المرشد الأعلى نفسه.
واللافت أن القوانين الانتخابية المرعية الإجراء توجب على المرشحين “الإيمان والتمسك بالإسلام والنظام المقدس للجمهورية الإسلامية في الممارسة… والتعبير عن الولاء للدستور والمبدأ التقدمي لولاية الفقيه”.
ووصل الأمر بأحمد جنتي، أمين مجلس صيانة الدستور في العام 2015، إلى تأكيد وجوب حصر الترشيح بالذين يؤمنون بخط الإمام الخميني وخط الولي الفقيه. واحتدمت هذه المزايدة حول التصنيف والولاء منذ “الثورة الخضراء” في 2009، وأخذ يسقط تصور وجود معسكر معتدل في مواجهة معسكر متشدد لأن التناحر بين من يعتبره الغرب “الطرف الإصلاحي” وبين الطرف الآخر الأكثر راديكالية وأصولية، لا يعني صراعا بين دعاة الإصلاح الحقيقي والمتمسكين بالوضع الراهن، بل يدور حول الطريقة المثلى للحفاظ على المنظومة.
ويكشف هذا التنازع حول الأسلوب عن أزمة وجودية عميقة بين حسن روحاني ومنافسيه، إذ أن الرئيس الإيراني الذي يلعب دور “المرونة” وربما تصور نفسه يوما بمثابة “غورباتشوف إيراني” لم يتردد في وصف الانتخابات علنا بأنها “احتفالية” وشبهها “بالتعيينات” والتشريفات. في المقابل، هاجم محيط خامنئي روحاني بسبب تعليقاته، مشيرا إلى أن نفس العمليات والإجراءات كانت قد أوصلت روحاني إلى السلطة.
لا ينفصل الاحتدام داخل الدائرة الأولى للحكم عن المتغيرات التي حصلت بين الانتخابات الأخيرة في 2017 والانتخابات الآتية، إذ حصلت في هذا الفاصل الزمني أربع انتفاضات كبرى على مستوى البلاد طالبت بتغيير النظام. في نوفمبر 2019، قُتل ما لا يقل عن 1500 محتج. وفي يناير 2020، تدفق الناس إلى الشوارع مرة أخرى ولم يترددوا في الهتاف ضد خامنئي.
وتظهر أزمة الشرعية في اقتصار قبول مجلس صيانة الدستور أقل من نصف المرشحين (قبول 7148 مرشحا ورفض 7296 مرشحا) وذلك لاختيار 290 نائبا. والغريب أنه تم استبعاد 90 عضوا في البرلمان الحالي، كانوا مؤهلين في الانتخابات السابقة.
ويؤكد ذلك الانتقائية ويعزز اتهام البعض لمعسكر خامنئي باللجوء إلى “التطهير الدراماتيكي” ويبرهن على عدم تحمل أي انشقاق أو تصدع ظاهري. والأدهى من كل ذلك ما يظهره استطلاع شبه رسمي بأن 83 في المئة من السكان لن يشاركوا في هذه الانتخابات، خاصة مع التخوف من عدم مشاركة الممنوعين من الترشح وجمهورهم، وكذلك وتلبية لنداء المقاطعة الذي أطلقته قوى معارضة مثل منظمة “مجاهدي خلق”.
لذلك سيكون محور انتخابات 21 فبراير، نسبة المشاركة الفعلية خاصة أن وزارة الداخلية في يد حكومة روحاني ويصعب على محيط المرشد التحكم بعملها. ووصل الأمر بالمتشددين لتغليب وجهة نظرهم باستحضار وصية منسوبة لقاسم سليماني (الذي تجري مقارنته بالحسين في حقبتنا لنسج أسطورة حوله) ورد فيها حرفيا “أرغب في مخاطبة السياسيين… الإصلاحيين والأصوليين أنه مهما تنافستم وتجادلتم، فتعلموا أنه عندما تؤدي تصرفاتكم وتصريحاتكم ومناظراتكم إلى إضعاف الدين والثورة بنحو من الأنحاء، فسوف تكونون من المغضوب عليهم”.
ويعني ذلك التشديد على أهمية الولاء للولي الفقيه وللثورة التي تسمو على الدولة. وهنا تكمن المعضلة الإيرانية في تطورها الداخلي وفي علاقتها مع الجوار والعالم.
في مرحلة شد الأعصاب والهشاشة بعد مقتل سليماني، لن تأتي الانتخابات بفريق روحاني كما كان الحال في 2017، بل من المرجح أن يتم تعويم الأصوليين المحافظين حول إبراهيم رئيسي من جديد استعدادا للاستحقاقات المقبلة.
وبالرغم من صورية كل العملية الانتخابية، إلا أنها تشكل مقياسا للرأي العام وموازين القوى في مشهد سياسي متخبط وينذر بتطورات متسارعة في الأشهر المقبلة، نظرا لسوء الوضع الاقتصادي وتراجع تصدير النفط يوميا إلى حدود 500 ألف برميل.
ستكون المرحلة حتى الانتخابات الرئاسية الأميركية في نوفمبر القادم، مرحلة توتر واختبار قوة. في الثالث عشر من فبراير أعلنت البحرية الأميركية عن اعتراض سفينة إيرانية في بحر العرب ومصادرة صواريخ مرسلة للحوثيين، مما حدا بمايك بومبيو للتأكيد على أن “إيران أكبر دولة راعية للإرهاب”.
وفي ليلة 13 فبراير استهدفت إسرائيل مواقع للحرس الثوري الإيراني قرب دمشق بعد ساعات من تهديد إيراني بضرب أميركا وإسرائيل سويا في حال أي هجوم مماثل. وفي نفس الوقت يستمر المأزق في العراق ولبنان، معاقل النفوذ الإيراني الشاهدة على متاعب المشروع الإمبراطوري لفارس الجديدة.
ويترافق الضغط الخارجي الأميركي الإسرائيلي، مع استنكار فرنسي لتطوير برنامج الصواريخ الباليستية، واستنكاف صيني عن العمل في مفاعل “آراك” للماء الثقيل. وبالطبع لن يكفي النظام الإيراني وصف مستشار الرئيس فلاديمير بوتين لقاسم سليماني بـ”ابن النور” الذي سقط على أيدي “الدجل”.