كتب توماس فريدمان، قبل يومين، في جريدة نيويورك تايمز الأميركية: “تكرر الولايات المتحدة الخطأ نفسه، في الشرق الأوسط، إذ تبالغ في تقدير قوّة الأيديولوجيا الدينية، مقابل التقليل من التأثير السلبي للحكم الفاسد“. وقد جاءت هذه العبارة في معرض التعليق على مقتل البغدادي. لا بأس.
ولنقل، في معرض التعليق على تشخيص فريدمان، إن ما يوصف، هنا، بالمبالغة في تقدير شيء ما، أو التقليل من أهمية شيء آخر، لا يُفسِّر دوافع السياسة الأميركية في هذا الجزء من العالم، وإذا تجلى كخطأ في أعين البعض، فإنه يبدو في الوقت نفسه عين الصواب في نظر النخبة السائدة، وصنّاع السياسة الخارجية.
ولكي لا يجهلن أحد على أحد، فلنقل إن ثمة أكثر من مركز لصناعة، والتأثير على، سياسة الولايات المتحدة الخارجية: البيت الأبيض، والبنتاغون، ووزارة الخارجية، وأجهزة الأمن، ومركبات المال والنفط والسلاح والبزنس، والكونغرس. ولهؤلاء وجهات نظر، ومصالح، وتكتيكات، غير متطابقة بالضرورة، وقد تخرج الخلافات، أحياناً، إلى العلن.
ومع ذلك، يصعب العثور على خلافات جدية بين كل ما ذكرنا إزاء ما يُمثّل مصلحة قومية عليا للولايات المتحدة في الشرق الأوسط: أمن إسرائيل، وتأمين مصادر النفط والطاقة، وتأمين الأسواق وطرق التجارة الدولية. فلا يختلف أحد من هؤلاء على مركزية وأهمية مصالح كهذه. ولنلاحظ أن ردة الفعل إزاء اغتيال خاشقجي، مثلاً، استنفرت ردود فعل من جانب معارضي ترامب أكثر صخباً وضوضاء من ردة الفعل إزاء اعترافه بالقدس عاصمة لإسرائيل، وضم الجولان.
ومن سوء حظ مواطني الشرق الأوسط إجماع النخب المعنية، في مراكز صنع القرار، على أن تحقيق ما ذكرنا من أهداف لا يتأتى دون دعم الأيديولوجيا الدينية وتكريسها والرهان عليها، في كل مكان، حتى وإن اتسم الأمر بقدر من المبالغة، وغض النظر عن فساد وتخلّف أنظمة بعينها، حتى وإن اتسم الأمر بقدر من عمى البصر والبصيرة.
ولكي لا يجهلن أحد على أحد مرّة ثانية، فلنقل: لماذا الرهان على الأيديولوجيا الدينية والأنظمة الفاسدة؟ ألا يمكن، مثلاً، لنظام علماني في بلد يحكمها القانون أن يكون صديقاً وحليفاً للولايات المتحدة في الشرق الأوسط بما يضمن أمن إسرائيل، ومصادر النفط والطاقة، والأسواق وطرق التجارة الدولية؟
في كل إجابة محتملة على أسئلة كهذه ما ينطوي على قدر من التعقيد. ولا ينبغي أن نُسقط من الحسبان أن في بعض الأوساط الغربية نظرة قديمة عنصرية ومتعالية مفادها أن “الشرق” تحركه العاطفة الدينية أما “الغرب” فيحركه العقل. حتى “الرفيق” زينوفييف دعا في مؤتمر شعوب الشرق في باكو، قبل مائة عام، “المسلمين” إلى شن حرب مُقدّسة ضد الإمبريالية. لماذا لم يدع إلى حرب طبقية كما جرت العادة، مثلاً، ولماذا لا تكون الحروب “مقدّسة” إلا في الشرق المنكوب والمغلوب على أمره؟
ومع ذلك، وإذا شئت الكلام من الآخِر، ودون الدخول في تفاصيل كثيرة، فمن دوافع رهان الأميركيين على الأيديولوجيا الدينية أنها تعترف بالتفاوت الطبقي، ولا تعترف بالمواطنة والمساواة، والتوزيع العادل للثروة، ولا تعادي الرأسمالية، نظاماً وسوقاً وعلاقات تبادل. ولا تبدو، في سياق كهذا، علاقة مروّجيها، والمضاربين بها، والمدافعين عنها، والمراهنين عليها بالبنوك والسوق والبزنس من محاسن الصدف.
وهي،بهذا المعنى، أيضاً، شريك دائم ومُحتمل في نهب الشعوب وسرقتها، حتى وإن أطلق بعض منتجيها، والمضاربين بها، شعارات معادية للإمبريالية من حين إلى آخر. وهذا يعني أن الأميركيين لن يكفوا عن ارتكاب “الخطأ” الذي حذّر منه فريدمان في وقت قريب.
وإذا شئت الكلام من الآخِر، يبدو الرهان أكثر جاذبية إذا ما تضافرت قناعة أن “الشرق” عاطفة دينية و“الغرب” عقل تجريبي مع أيديولوجيا تعترف بالتفاوت الطبقي. فعدم توفّر “العقل” يحول دون إنشاء أنظمة حديثة وعقلانية في “الشرق“، بمعنى أن وجود الأيديولوجيا الدينية يضمن بقاء الفجوة الحضارية على حالها، ويضمن في الوقت نفسه إمكانية الشراكة والتحالف مع أنظمة تمثلها. وهل ثمة ما هو أفضل لأمن إسرائيل، ومصادر النفط والطاقة، والأسواق وطرق التجارة الدولية، من فوائد وضمانات ديمومة الفجوة الحضارية، وإمكانية الشراكة في النهب.
وإذا شئت الكلام من الآخِر، أيضاً وأيضاً، تدرك النخب في مراكز صنع القرار أن لدى “الشعوب“، خاصة في هذا الجزء من العالم، وجهات نظر تختلف عن مواقف حكّامها كلما تعلّق الأمر بإسرائيل، وتأمين مصادر النفط والطاقة، والأسواق وطرق التجارة الدولية، وأن الحكّام لم يحصلوا على تفويض بشأن أشياء كهذه، وغيرها. لذا، فساد النظام شرط مسبق لنجاح وديمومة علاقة تعود بالفائدة على الطرفين.
ولنعد إلى فريدمان الذي ينتقد السياسة الخارجية الأميركية. فغض النظر عن الآثار السلبية للحكم الفاسد، كما يقول، يؤدي إلى نشوء دفيئات ينبت فيها أشخاص كبن لادن، والبغدادي. وهذا كلام لطيف وخفيف. ولكن تحضرني عبارة لبريجنسكي مستشار الأمن القومي في عهد كارتر، ومهندس توظيف الأيديولوجيا الدينية في حرب “الجهاد” الأفغاني.
ففي معرض الرد عمّا إذا كان نادماً على استغلال العاطفة الدينية، بعدما أصبحت القوّة الدافعة في موجة الإرهاب التي تضر بالعالم قال: وما أهمية هذا كله إذا ما قورن بانهيار الإمبراطورية السوفياتية. وأعتقد أن تحوير هذه العبارة، في الرد على الأخ فريدمان، يفي بالغرض ويزيد:
وما أهمية أشياء من نوع ظهور بن لادن، والبغدادي، والحروب الأهلية، والإرهاب في العالم، إذا ما قورنت بأمن إسرائيل، وتأمين مصادر النفط والطاقة، والأسواق وطرق التجارة الدولية، و“على البيعة” هل ثمة أفضل لضمان وديمومة هذا كله من تضافر الفجوة الحضارية مع الفساد؟