الجندي “هيرو أونودا”، استسلم في ١٩٧، بعد ٢٩ سنة من انتهاء الحرب العالمية الثانية، وتوفي في ٢٠١٤ عن عمر ٩١ سنة.
لم يُصدّق أن الحرب قد انتهت، وأن اليابان يمكن أن تُهزم.
بعض الكتب يحرمنا من النوم. هذا لا يحدث، دائماً، بطبيعة الحال، ومن حسن الحظ. وإن حدث سنعثر على ما يُفسّره في حقيقة أن ثمة أشياء قليلة تضاهي متعة القراءة، وكلها، إن شئت، قراءة في الطبيعة، أو الجسد، بأدوات مختلفة.
ولا أعتقد أن ثمة مسطرة واحدة، ومُوّحدة، نقيس بها، وعليها، دلالة “المُمتع“، التي لا تتفاوت من شخص إلى آخر وحسب، بل ومن مرحلة إلى غيرها في حياة القارئ الواحد، أيضاً. ومع هذا كله في الذهن، ينبغي التفكير، الآن، في ما حوّل حكاية الياباني هيرو أونودا إلى مصدر للمتعة، ومكّنها مشكورة، من حرماني من النوم.
نشر أونودا كتابه المعنون: “لا استسلام: حربي على مدار ثلاثين عاماً” في 1974، وصدرت الترجمة الإنكليزية للكتاب في 1999، وقُيّض لي العثور على الترجمة المذكورة، والتهامها، قبل أيام. كان الخيار في الأيام القليلة الماضية قراءة النص العربي لكاتبة عُمانية فازت بالبوكر، ومضاهاته بالترجمة الإنكليزية، ولكن حرب الثلاثين عاماً، التي خاضها السيّد أونودا، حسمت الأمر.
وأعتقد بلا كثير تردد أن نصّه، الذي يندرج في أدب السيرة، يصلح لنوبل للآداب لو نُشر كرواية، وصدر عن مُخيّلة جمحت لا عن ذاكرة حديدية سردت قصة حقيقية. بيد أن خلاصة كهذه لم تكن ممكنة قبل قراءة النص. وفوزه على العُمانية في سباق الخيارات ينتمي إلى سياق مختلف تماماً، أي إلى ما لنص بعينه من سلطة مُسبقة في ذهن القارئ قبل فعل القراءة نفسه. فهذه قد تحوّل نصوصاً سخيفة، أحياناً، إلى ألغاز أنطولوجية، أو ربما تحرّض على تحيّزات تُعمي البصر والبصيرة.
والصحيح، كانت لكتاب السيّد أونودا، في ذهني، سلطة مُسبقة.
ففي أواسط سبعينيات القرن الماضي ذاعت أخبار جندي ياباني في جزيرة فلبينية لم يصدّق أن الحرب العالمية الثانية انتهت في 1945، وواصل “الحرب“، في الأدغال، على طريقته حتى 1974، ولم يستسلم إلا بأمر شفوي، وجهاً لوجه، من قائده السابق. وتصادف أن هذا الجندي هو السيّد أونودا بلحمه وشحمه، وأن الكتاب كتابه، وأن الحكاية شهادته الشخصية عن حرب الثلاثين عاماً.
ولست، هنا، في معرض تلخيص الحكاية، بل محاولة العثور على ما يفتح مغاليقها. فالمذكور كان ضابط استخبارات، في الثانية والعشرين من العمر، تلقى دورة خاصة في حرب العصابات قبيل نهاية الحرب، وكُلف مع آخرين بالتمركز في الجزيرة، والقيام بعمليات استطلاع وتخريب ضد القوات الأميركية في حال نزولها هناك. وهذا ما كان.
وعلى الرغم من مُقتل رفاقه على مدار كل تلك السنوات، وقدوم بعثات متلاحقة من اليابان للبحث عنه في الأدغال، ومحاولة إقناعه بأن الحرب قد انتهت، فعلاً، ورغم أنه لم يكن معزولاً عن العالم، إلا أنه لم يُصدّق أن الحرب قد انتهت، وأن اليابان يمكن أن تُهزم.
عاش ككائن خرافي تُطارده الكواسر في الأدغال. هناك ما لا يحصى من التفاصيل المُذهلة عن تدبير الماء والدواء والطعام والكساء، والتعايش مع الحشرات والقوارض، والفصل الماطر، وعدم الاستقرار أو النوم في مكان واحد أكثر من بضعة أيام. ومع ذلك، أراد البقاء حياً أطول فترة ممكنة ليتمكن من إلحاق أكبر قدر من الخسارة بالعدو، وتزويد الجيش الياباني بعد تحرير الجزيرة بالمعلومات الضرورية عن تجمّعات العدو، والمسالك السريّة في الجبال. لم يخف من الموت، كل ما في الأمر أنه كان مفيداً أكثر في الحياة.
ولعل أهم مفاصل الحكاية ما يتجلى في تحليله “البارد” و“العقلاني” للمعلومات القادمة من العالم الخارجي. فالبعثات التي أرسلها اليابانيون للبحث عنه في أواخر الخمسينيات، وأواسط الستينيات، وأوائل السبعينيات، ألقت على الأدغال كتباً ومنشورات، وجرائد ومجلاّت، وصوراً عائلية، من طائرات الهيلوكوبتر، ونادته بمكبرّات الصوت، وذات يوم أحضروا شقيقه ليناديه بمكبّر الصوت.
ومع ذلك، لم يُصدّق أونودا أن الحرب انتهت، حتى بعد سماع صوت شقيقه، وعثوره على صور لأفراد من عائلته. فقد تصوّر أن الأميركيين “أولاد الحرام” سجّلوا صوتاً لشخص يشبه صوت شقيقه، وأن الصور، كما الجرائد ولمجلات، كلها مُلفقة، لإقناعه بالخروج من الغابة، والإيقاع به. وحتى عندما سرق راديو ترانزستور من بيت على طرف الغابة، فكّر أن كل ما يسمعه مُفبرك.
في تقديمه للطبعة الإنكليزية حاول المترجم تفسير اهتمام اليابانيين بحكاية أونودا، وكيف أصبح أسطورة في بلاده بالقول: “كانوا يريدون العثور على “بطل” بعد كارثة الحرب العالمية الثانية“. ويوم أمس، رويت لصديقة ألمانية، في مكان لا يبعد كثيراً عن معالم برلينية تقطن فيها أشباح الماضي، سيرة أونودا، وسألتها عن أهم مفتاح فيها. قالت: مخاطر الطاعة. فقد تعلّم الطاعة في الجيش، وعاش في “فقاعة” تسوّغ تفسير الواقع بطريقة مغايرة تماماً.
بماذا، وكيف، يفتح الفلسطينيون حكاية أونودا؟
وبقدر ما أرى الأمر، فلا أحد، في الشرق والغرب على حد سواء، ينجو من العيش خارج “فقاعة” من نوع ما. ما يعني أن العلاقة بالواقع تظل إشكالية في أفضل الأحوال. ومع ذلك، ثمة مفاتيح إضافية لعل أهمها ما أوجزته سيمون دو بوفوار في عبارة شائعة: “لمعرفة البشرية بشكل افضل ينبغي النظر إلى أكثر حالاتها تطرفاً“.
أونودا حالة متطرفة، بالتأكيد،ولكنها تمنح إرادة البقاء لدى الإنسان شهادة إضافية،وربما كانت تعقيباً طويلاًعلى عبارة غالباً ما كررها غسان كنفاني: “في الخيال واقع أكثر من الواقع نفسه، وفي الواقع خيال أكثر من الخيال نفسه“. وبالمراوحة بين هذين الحدين طيّر السيّد أونودا النوم من العينين.
khaderhas1@hotmail.com
*كاتب فلسطيني