تُخيّم علينا حالة، غير مسبوقة، من الوجوم والتشاؤم. فلم يسبق للعالم أن ضاق بنا، وعلينا، كما يحدث الآن. ترامب يشطب ما يشاء، ويُعطي ما يشاء لمّنْ يشاء، والعالم العربي ليس في وضع لا يحسد عليه وحسب، بل فيه، ومنه، من يرى في الفلسطينيين عبئاً، وفي الإسرائيليين حامياً جديداً. أما شهية الإسرائيليين فلا تعرف حدوداً، ولا تعترف بالشبع.
وكالعادة، وجرياً على تقليد مألوف، فإن أوّل ما يتجلى من ردود الفعل، في وضع كهذا، إلقاء مسؤولية الكارثة المُقيمة والمُحدقة على عاتق السلطة الفلسطينية، أو منظمة التحرير. هذا، على أي حال، مفهوم ومشروع، ولكنه لا يُفسِّر كل شيء، وحتى لو كانت هذه، وتلك، مأهولة بفريق استثنائي من عباقرة لم يجد بمثلهم الزمان، فلن يتغيّر الواقع كثيراً. وهناك، أيضاً، منْ يعثر على تفسير للكارثة في “الانقسام“، الذي يبدو أقرب إلى وصفة للتداوي بالأعشاب منه إلى علوم الطبابة والطب.
وبقدر ما أرى، فإن الواقع، على بؤسه، وسوداويته، لا يبرر كل هذا القدر من الوجوم والتشاؤم. ولن تتجلى حقيقة، أو صورة أمر كهذا، ما لم نحاول العثور على لغة، وتصوّرات جديدة، لا تخترع واقعاً جديداً، بل تحاول مقاربته من مداخل مختلفة. فالمشروع الوطني الفلسطيني، باللغة، والتصوّرات التقليدية، والمتداولة، والمألوفة، في الحضيض. وهذا صحيح شريطة أن تكون الدلالة الوحيدة المُحتملة للمشروع الوطني هي إنشاء الدولة التي فاوضنا الإسرائيليين عليها على مدار خمسة وعشرين عاماً مضت.
ولكن، ماذا لو فكّرنا، في الأمر، بطريقة مُختلفة؟ ماذا لو أعدنا تفسير النكبة في العام 1948 بطريقة جديدة؟ فتعبير النكبة، كما كل تعبير آخر، لا يحتمل دلالة واحدة، وله حياة مُستقلة، بمعنى أنه لا يظل جامداً في الزمان والمكان، بل يتغيّر. تعني النكبة، في الخطاب السائد على مدار عقود، ضياع فلسطين، وتعريض أهلها للتطهير العرقي، وتحويل أغلبهم إلى لاجئين.
ولكن، هذا التعبير مراوغ، فقد تضيع حقيبة في مطار، ولكن البلاد لا تضيع إلا إذا تخيّلنا منشاراً هائلاً يقص قطعة أرض بحجم بلد من هنا ويعيد وضعها في مكان آخر. ما حدث، في الواقع، ومع كل ما وسمه من فجيعة وفقدان، تمثّل في نجاح أقلية بالمعنى الديمغرافي، واللغوي، والديني، من الحاق الهزيمة بالأغلبية، وسلبها الحق في تقرير المصير، والاستيلاء على القسم الأكبر من الرقعة الجغرافية، وتحويل الأغلبية نفسها إلى أقلية في القسم الأكبر من الرقعة الجغرافية.
بهذا المعنى يكتسب تعبير “الضياع“ دلالة جديدة، ويصبح، في صياغة مختلفة، مادة خام يمكن التفكير فيها، وإعادة تشكيلها بطريقة جديدة، ومختلفة تماماً. فالأغلبية تحوّلت إلى أقلية في منطقة جغرافية واسعة، ولكنها لم تنقرض. والأغلبية، أيضاً، فقدت الحق في السيادة، وتقرير المصير. بمعنى آخر، وبدون الإفراط في لغة جنائزية مفيدة في التعبئة والتحريض، ولكنها مُضللة بالمعنى السياسي: المشكلة هي الديمغرافيا والسيادة والحق في تقرير المصير.
وبلا تفاصيل كثيرة، وغير مجدية، “للنكبة“، كما لكل تعبير آخر، وكما ذكرنا، حياة مستقلة. فالتفكير بلغة الأقلية والأغلبية في العام 1949 يختلف إلى حد بعيد عنه في العام 2019. فالشعب الذي كان يُعد، آنذاك، بالآلاف، يُعد الآن بالملايين. يوجد الآن قرابة 12 مليون من الفلسطينيين، ومن هم من أصول فلسطينية. البعض يرفع العدد إلى 14 مليون.
والمهم أن فقدان السيادة، والحق في تقرير المصير، والتحوّل إلى أقلية، وعيش أعداد كبيرة على مدار أجيال في الشتات، كلها تحوّلات هائلة، ولكنها لم تؤد إلى ضياع الهوية الجمعية، ولا غياب الفكرة التوحيدية والموّحدة. والصحيح أن الهوية الوطنية، وبعد سنوات الصدمة الأولى، شهدت صعوداً لافتاً، وتجلّت في حيوية سياسية، وثقافية، مُدهشة. والمفارقة أن مشروع الدولة، الذي تجلى أخيراً في سلطة، وصعود الإسلام السياسي، من العوامل التي أسهمت في الفوضى الدلالية، والقلق الوجودي، الذي يسم هذه الهوية الآن.
فنشوء السلطة، بما تعني من وزارات، وتخطيط، وسياسات، كشف خللاً حقيقياً بين الطموح وحقيقة القدرات والمؤهلات والكفاءة الذاتية. أما الإسلام السياسي، الذي تجلى في صورة “حماس” الإخوانية، فكشف ثقوباً سوداء اجتماعية، وثقافية، وسياسية، كانت حتى وقت قريب في دائرة المسكوت عنه، ناهيك عن محاولة نقض الفكرة الوطنية، التوحيدية المُوّحدة، بأممية إسلامية وهمية ومتوّهمة.
وعلى ضوء كل ما تقدّم، حقيقة أن نصف الشعب، الآن وهنا، في أرضه وعليها، مستقلة تماماً عن جود السلطة، ومصير الدولة، بما تعني من الحق في الاستقلال، وتقرير المصير، والسيادة، غير مشروط بأوسلو، وتحوّلاته، وما نجم عنه، بل بصيرورة تاريخية مستقلة تماماً، طالما أن فكرة اقتسام الأرض لم تعد مقبولة لدى الإسرائيليين. وطالما وضع الفلسطينيون نصب أعينهم حقيقة أن المشروع الوطني يكون وطنياً إذا كان جوهره الحفاظ على الشعب في أرضه، وعليها، والوصل بين تجمعاته الديمغرافية الكبرى.
وعلى ضوء ما تقدّم، أيضاً وأيضاً، إعادة التفكير في الواقع بلغة جديدة لا تعني أننا عثرنا على خارطة طريق. كل ما في الأمر أن ثمة ما يشبه علامات على الطريق. الوجوم مُبرر ومنطقي، ولكنه لا يعني “ضياع“ كل شيء، ولا يوحي بخروج الفلسطينيين، شعباً وقضية، من التاريخ. لا شيء يضيع تماماً، ولا شيء يعود، تماماً، كما كان. ثمة ما يُخلق ويتخلّق الآن.
khaderhas1@hotmail.com
“كاتب فلسطيني