إزاء هذه الانتكاسات لا بد من مراجعة الخيارات في الحسابات الخارجية. وعلى الجبهة الداخلية لا بد من تجديد في النهج والفريق لجهة بناء جديد لهيكلة الأغلبية الرئاسية كي تصبح أكثر توازنا، وأكثر انتباها للقوى الاجتماعية.
لم تمر سنة ونصف السنة على وجود الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في قصر الإليزيه، لكن سرعان ما انتهت فترة السماح بالنسبة لأصغر رئيس في تاريخ الجمهورية الفرنسية الخامسة التي احتفلت في الرابع من أكتوبر بالذكرى الستين لإعلان دستورها.
في الأسابيع الأخيرة تدهورت شعبية الرئيس واستقال اثنان من أبرز وزرائه، لكن استقرار المؤسسات، الذي يتوفر بفضل الدستور العائد لحقبة الجنرال شارل ديغول، يمكن أن يسمح له الانتقال من “ماكرون 1” إلى “ماكرون 2” بعد سقوط رهانات البداية مع تأزم في الداخل سواء على صعيد المحيط الأقرب والحكومة، أو على مستوى ثقة الرأي العام، وذلك بالموازاة مع انتكاسات في السياسة الخارجية من التجاذب والصعوبات مع دونالد ترامب وفلاديمير بوتين وأنجيلا ميركل، إلى توتر مع إيران لم يكن في حسبانه.
بالرغم من وهج مرحلة انطلاق ولاية ماكرون ومواجهته تحديات داخلية وخارجية، أخذ فريق من مؤيدي نهجه يأخذ عليه كثرة المداخلات والجهد النظري، مقابل المحدودية في النتائج التي انحصرت داخليا في إصلاح قانون العمل والحد من الإنفاق العام، وخارجيا في الوسطية والحديث مع الجميع والكثير من الزيارات.
ومع فوز فرنسا بكأس العالم لكرة القدم في شهر يوليو الماضي كان رهان الرئيس الفرنسي أن يكون ذلك فأل خير على بقية ولايته من أجل إعطاء المزيد من الدفع لبلاد تحتاج إلى إنجاز تحولات تتأقلم مع الثورة الرقمية والتكنولوجية، لكن منذ أواخر يوليو تتوالت العثرات على درب الماكرونية، بدءا من الكشف عن ممارسات ألكسندر بينالا (الحارس الشخصي للرئيس ماكرون أو مستشاره الذي ضرب المتظاهرين متنكراً بزي أمني في مايو الماضي) وتغطية الرئيس له لأنه كان يصعب عليه الافتراق عن أحد “الأوفياء” الذين ساعدوه في حملته الانتخابية ومن ثم في مجموعة أمن رئاسة الجمهورية. وأدى الجدل حول الموضوع، بالإضافة إلى الإحاطة الإعلامية والسياسية، إلى ضرب مصداقية الحكومة وصورة الرئيس بالذات.
وكانت النكسة الثانية في 28 أغسطس الماضي مع الاستقالة الفجائية لوزير البيئة نيكولا أولو الأكثر شعبية في الحكومة والآتي من الوسط الإعلامي والمجتمع المدني، والذي كان يشكل قيمة إضافية كبيرة للفريق الحكومي ونوعا من بوصلة ضمانة للرئيس الذي وقف في مواجهة الرئيس دونالد ترامب عند انسحابه من اتفاق باريس حول مكافحة التغيير المناخي، فإذ بأولو الذي رفض عرض رؤساء سابقين بتولي وزارة البيئة، يخرج من منصبه من دون استئذان لأن جهوده فشلت في مواجهة لوبي استخدام الطاقة النووية السلمية في الكهرباء، ولوبي مبيدات الحشرات الضارة، وذلك بسبب عدم الوقوف إلى جانبه وإصرار الممسكين بالقرار على اتباع نموذج اقتصادي تقليدي غير متجدد.
أما الضربة الثالثة ضد الماكرونية فأتت من وزير الداخلية جيرار كولومب أحد أقطاب الحزب الاشتراكي سابقا وعمدة مدينة ليون طويلا، الذي أصر في 3 أكتوبر على تقديم استقالته بإلحاح، وذلك على الرغم من طلب الرئيس ماكرون تأجيل ذلك إلى ما بعد الانتخابات الأوروبية في مايو 2019.
وهذا الاستعجال من أحد بارونات السياسة الفرنسية في ترك دوائر القرار الباريسي والاعتصام بقلعته في ملتقى نهري الرون والسون، دليل إضافي على اهتزاز لا فقط في الجانب السياسي بل في ما أطلق عليه المراقب الحاذق اللغوي برنار بيفو مشكلة في “العلاقات الإنسانية” ما بين “الأب الروحي” كولومب (71 عاما) و”الابن” ماكرون (40 عاما).
هكذا برزت من جديد صعوبة الرئيس الشاب في الافتراق عن مواكبيه أو مؤيديه منذ اللحظة الأولى، وهذا يمنحه تقديرا لناحية المناقبية، لكنه يضعف هيبة موقع الرئاسة بالنسبة أمام منتقديه. ولذا لم يظهر الوهن على ماكرون بعد توالي “الطعنات” بل وصف ذلك بأنه لا يرتقي إلى مستوى الأزمة، بل إنها مجرد حوادث عابرة، لكنه سيضطر لإجراء تعديل حكومي واسع للتو وعدم انتظار العام المقبل كما كان يتصور، ويأمل سيد الإليزيه أن يكون ذلك الممهد لانطلاقة جديدة وللاعتناء بالجانب الاجتماعي بعدما تركزت الهجمات على وصفه برئيس الأغنياء الذي أهمل دور الدولة الراعية.
ومن هنا أتت إعلاناته عن المخططات طويلة المدى ضد الفقر لإصلاح قطاع الصحة، في مسعى واضح لترميم الصورة الرئاسية، مع إبداء العزم على استمرار نهج التغيير وإحالة تعديلات دستورية إلى البرلمان مطلع يناير القادم لأن المطلوب- حسب رأيه- التفكير بحاجات الأمة وليس الديمومة في المؤسسات.
ومما لا شك فيه أن تجديد شباب الجمهورية الخامسة بشكل مقنن يبقى ممكنا، أما التغيير الجذري فيمكن أن يقود فرنسا إلى متاهات فوضى الجمهورية الثالثة وهذا ما سيحاول تفاديه ماكرون في تتمة ولايته.
على الصعيد الخارجي لم يكن الحصاد أفضل بكثير، إذ أن كل الانفتاح على الرئيس دونالد ترامب لم يسفر عن التخفيف من وقع “الأحادية الأميركية المفرطة” التي يمارسها سيد البيت الأبيض. ويسري الأمر كذلك على محاولة إحياء الصلة مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين والتي لم تسمح بأي اختراق ملموس لجهة أزمتي أوكرانيا وروسيا.
أما الخيبة الكبرى حتى الآن فتمثلت بعدم القدرة على إعادة إطلاق المشروع الأوروبي بالرغم من التركيز عليه في الحملة الانتخابية وكل الجهد المبذول في هذا السياق.
يفصلنا عام عن خطاب ماكرون في السوربون في سبتمبر 2017 حول دور المحرك الفرنسي- الألماني في البناء الأوروبي، لكن منذ تشكيل أنجيلا ميركل حكومتها الائتلافية الجديدة في مارس الماضي ينتظر الرئيس الفرنسي عبثا ولا يظهر أن برلين تتقاسم طموحاته الأوروبية، ولهذا ربما تحرك الرئيس الفرنسي نحو فنلندا والدنمارك في مسعى لتوسيع دائرة إنقاذ مشروعه الأوروبي، ويأمل أن يمنع اليمين الشعبوي في انتخابات البرلمان الأوروبي في مايو 2019 من تعطيل الاتحاد الأوروبي.
أما بخصوص الرهانات الماكرونية الأخرى، فتوجد إيران في مرتبة مميزة نظرا لاعتماده النهج الوسطي حيالها، والسعي العنيد لإنقاذ الاتفاق النووي معها، لكن التطورات الأخيرة لا تسهل مهمة الرئيس الفرنسي خاصة بعد اتهام فرنسا وزارة الاستخبارات الإيرانية بتدبير اعتداء ضد تجمع للمعارضة الإيرانية بالقرب من باريس في 30 يونيو الماضي.
وأتت الإجراءات الفرنسية بعد عدم تعاون السلطات الإيرانية (بالرغم من طلب ماكرون ذلك بشكل شخصي من الرئيس الإيراني حسن روحاني خلال لقائهما على هامش الجمعية العامة للأمم المتحدة في سبتمبر الماضي) وامتناع باريس عن تعيين سفير لها في طهران لتكشف عن توتر يتصاعد بين باريس وطهران، لأن التخطيط لاعتداء في الأراضي الفرنسية اعتبرته الأوساط المعنية عودة إلى ممارسات الماضي، وتعطي حجة للرئيس دونالد ترامب في معركته، وتحرج الرئيس الفرنسي الذي تبنى بقوة خيار الدفاع عن العلاقة مع إيران وحماية الاتفاق النووي، متجاوزا آراء بعض وزرائه ومؤسسات رسمية لفتت نظره لمخاطر اعتماد “الخيار الإيراني”.
إزاء هذه الانتكاسات لا بد من مراجعة الخيارات في الحسابات الخارجية. وعلى الجبهة الداخلية لا بد من تجديد في النهج والفريق لجهة بناء جديد لهيكلة الأغلبية الرئاسية كي تصبح أكثر توازنا، وأكثر انتباها للقوى الاجتماعية وأكثر حساسية إلى الحاجة للحد من عدم المساواة.
khattarwahid@yahoo.fr