بعد الانهيارات الكبرى في التسعينات، طالبت قيادة الحزب الشيوعي بالتجديد وبإعادة قراءة الماركسية. فلاحو ماركس مثلاً صاروا مزارعين وعمالاً زراعيين، والاشتراكية المحقّقة انهارت. وإلى أن نتمكّن من إعادة بناء النظرية لا بدّ من إعادة ترتيب الأولويات، الوطن والدولة أولاً. رمتني القيادة بتهمة التخلي عن الصراع الطبقي والقضية القومية، ورأت أن شعار «الحل بالدولة» شعار برجوازي تستفيد منه الطغمة المالية وأجهزة المخابرات الإمبريالية والصهيونية والاستعمار.
حين تولى حنا غريب الأمانة العامة توسّمنا في تاريخه النقابي النقيّ إنقاذ الحزب من التقاليد الستالينية وعرضنا عليه وعلى القيادة الجديدة، من دون مقابل، المساعدة على لمّ شمل الواقفين على ضفاف الحزب ينتظرون العودة إلى صفوفه، انطلاقاً من أن اليسار حاجة وضرورة للوطن، لكن على أسس جديدة وبرنامج مختلف ينطلق من نقد الحرب الأهلية.
جاء الجواب رفضاً مثلثاً، لا لإعادة قراءة النظرية، لا لنشر كتابي «أحزاب الله»، لا للتخلي عن تحالفات الحرب الأهلية وأولوياتها، مع الإصرار على البقاء طرفاً ولو هامشياً في جبهة الممانعة، رغم تلبّسها بجريمة اغتيال جورج حاوي.
الأسبوع الماضي استمعت إلى مؤتمر صحافي لسامي الجميّل. كنت قد زرته في الصيفي قبيل ثورة 17 تشرين 2019 لأقدم له نسخة من كتابي «أحزاب الله»، وأوجزت له ما بين دفتيه. قلت له إن الكتاب قراءة نقدية لتجربتي الشخصية في الحزب الشيوعي اللبناني، استخلصت منها العبر من غير ندم لأن ما توصّلت إليه من خلاصات ما كان ممكناً لولا انتمائي الصادق وانخراطي في معاركه السياسية والإيديولوجية. منه تعلّمنا جرأة النقد الذاتي، مثلما تعلمنا من المجتمع أن العودة عن الخطأ فضيلة وأن من ينصب نفسه للناس إماماً عليه أن يبدأ بتعليم نفسه قبل تعليم غيره.
من تلك العبر الجريئة أن الذين شاركوا في الحرب الأهلية، جميعاً من غير استثناء، ارتكبوا فعل الخيانة بحق الوحدة الوطنية، عندما استدرج كل منهم قوة خارجية ضد خصمه الداخلي، واختاروا العنف سبيلاً للإصلاح. ذلك أن الأولوية في برامجهم هي للسلطة لا للدولة.
ومنها أن الأحزاب اللبنانية متشابهة في عدائها للديمقراطية وللدولة ولفكرة الوطن النهائي، وأن الميليشيات المسلّحة خاضت الحرب دفاعاً عن مشاريع ما دون الوطنية، دينية وطائفية ومذهبية، أو ما فوق الوطنية كالقومية والأممية، ما يجعل منها نسخاً متعدّدة من حزب شمولي واحد يشبه «حزب الله» ولذلك أسميتها «أحزاب الله».
ومنها أن الحرب الأهلية لا رابح فيها سوى التدخل الخارجي وأن الخسارة تقع فيها على المتقاتلين وعلى الوطن، وأن الحل الوحيد للخروج منها لا يكون بغير الدولة، دولة القانون والمؤسسات والكفاءة وتكافؤ الفرص والفصل بين السلطات والديمقراطية والحريات.
كان جوابه، لو أنك قدمت لي هذه الأفكار مكتوبة في بيان لوقعت عليه كأنه صادر باسم المكتب السياسي لحزب الكتائب.
وجدت نفسي مرغماً على المقارنة بين حزبين كانا الرمزين الأكثر تجسيداً لمنطق الصراع في الحرب الأهلية بين خصوصية لبنانية يمثلها حزب الكتائب وحركة قومية أممية يمثلها الحزب الشيوعي.
حتى بعد اختلاط حابل اليسار بنابل اليمين سيظل اليسار حاجة للوطن ولكل الأوطان، لكن بمضمون جديد.
في الظروف الحالية والواقع الملموس في لبنان، الدفاع عن وجود الوطن وعن سيادة الدولة هما الأولوية.
فيما يقود حنا غريب حزبه لمواجهة الشيطان الأكبر ورأس المال المتوحش، ولو بالتحالف مع قتلة جورج حاوي، يمضي سامي الجميّل في مواجهة حزبه وحلفائه وخصومه رافعاً شعار إعادة بناء الوطن والدولة.
فمن منهما اليساري؟