بعد انفجار مرفأ بيروت في 20 أغسطس من عام 2020 عيّن القاضي فادي صوان. لكنه استقال لأنه لم يتحمل الضغوط والتهديدات. استلم القاضي طارق بيطار القضية، التي كان قد رفضها في البداية لمعرفته بالتعقيدات والعراقيل التي ستعترضه.
وعندما بدأ عمله بجدية ونزاهة، كما عُرف عنه، اتهم في هذه الدعوى “بوضع نفسي خاص”. طبعا لأن النزيه في زمن الاحتلال غير سوي. توالت دعاوى كف اليد ضده حتى بلغت 40 دعوى. ونجحت المنظومة في توقيفه تماما في عام 2021.
كتب حينها أحد الصحفيين الموالين لحزب الله، في شهر مايو، مقالا مطولا عنوانه “كيف نجا حزب الله من عنبر البيطار؟”. يسرد أنها “بجّت بين حزب الله والمحقق العدلي”، عندما اختار مسؤول وحدة الارتباط والتنسيق، وفيق صفا، أن ينفّذ “غارة قانونية” على قصر العدل ويحاول تسوية المسائل “العالقة” مع أصحاب الشأن، لكن وفي لحظة الكباش واللجوء إلى “تجاهل الارتياب”، عبّر الرجل الذي يتّسم بالهدوء عن انفعاله. لربما، أنها المرّة الأولى التي يخرج فيها صفا عن اللياقات”.
ويسترسل أن صفا لم يكن بحاجة لتوجيه رسالة شديدة اللهجة ومباشرة لبيطار، إذ لعلّه يقدر على توجيهها بنفسه طالما يستحصل على “فيزا” عبور إلى المقارّ القانونية. وفرضية “القبع” التي اختارها “حزب الله” كحلّ مشروع في القانون، وصلت إلى القاضي بالتواتر، وقد حوّلها الأخير “مادة ابتزاز وتهديد” موجّهة ضده، لخدمة مصالحه أو ربما كغاية تبرّر خروجه”.
هكذا حوّلت أقلام حزب الله القاضي البيطار إلى مبتزّ يعمل لمصالحه، ولم تعتبر “القبع” تهديداً.
ويتابع أن سبب غضب الحزب وأزلامه من البيطار، “تواتر أنباء عن ميل لديه لاستدعاء قياديين من الحزب لاستجوابهم“. وبما أن الآلهة لا تُمسّ، استعادوا مهزلة “شهود الزور” ذائعي الصيت في قضية اغتيال رفيق الحريري. ونعرف أن المحكمة أظهرت زيف كل ذلك.
وأيضاً بما أنه من المعروف عن حزب الله، “دقّته” في تقديم الاتهام عبر الإعلام ومحكوم بقاعدة شرعية غير قابلة للتجزئة، لم يكن ليقبل أن يمرّ الاتهام بحق مسؤوليه دون الاطلاع على الأدلة.
وهكذا فالحزب الحاكم يحق له الاطلاع على الأدلة قبل استكمال التحقيق. ويستطيع الحزب، المتهم بعدد لا يحصى من الجرائم ومن رفض تسليم المرتكبين، أن يعطينا الدروس في العدالة وإحقاق الحق؛ مع استنكار تدخل القضاء الدولي والدول الغربية “المعروف عنها استعماريتها وسفكها للدماء”. اتركوا الأمر للقضاء اللبناني ليستكمل “قبع” البيطار.
على كل حال، تلتقي رغبات حزب الله ورغبات المجتمع الدولي على ما يبدو. هناك إرادة دولية في طمس الحقيقة حول جريمة تسببت بأكبر انفجار غير نووي في التاريخ، هدمت نصف بيروت، وراح ضحيتها 230 قتيلا وجريحا وتسببت بتشريد الآلاف.
يقال الكثير، عن أدلة وأقوال سحبت من التداول، عن أن اسرائيل وراء تفجير المرفأ. ويبدو أن مصالح الحزب تجتمع مع مصالح المراجع الدولية التي تحمي مصالح إسرائيل للفلفة القضية.
وبالتالي أي تدويل يبدو مستبعداً، خصوصاً بعد تدخل الجهات الأميركية في ملف الموقوفين وإخراج المواطن الأميركي (وهو لبناني يعمل في وظيفة حساسة كالأمن وسلامة المرفأ!! لتأخر صدور الحكم ضدّه، بسبب تعطيل التحقيق!! وسمح له بمغادرة الاراضي اللبنانية من المطار بمعرفة وموافقة حزب الله).
وعليك أن تفتش عن صلة ذلك بالترسيم مع إسرائيل والاتفاقيات غير المعلنة التي تضمنها، وعن الاتفاق النووي الإيراني.
ولنعد إلى قطيعنا ما دام التحقيق سيظل محصورا في الفنجان اللبناني المهشم. ظاهر الصراع الآن يبدو بين البيطار وعويدات، لكن باطنه صراع بين القانون والحق والقوة العارية؛ باعتراف مدعي عام التمييز، الذي أخبرنا أننا في بلاد بلا قانون؟
يستنتج البعض، بوجود “بنك أهداف” لإسقاط الدولة، عبر جعلها مأوى مجانين، تحت أنظار العالم الذي يمتنع عن التدخل كلما كان ذلك ضرورة مطلقة.
تم تعطيل جميع المؤسسات، فيما عدا مؤسسة الجيش حتى إشعار آخر. لكن بدأت المحاولات منذ ما قبل نهاية العهد، ويستكملها الآن وزير العدل الذي يطلق تصاريح يكذّبها في اليوم التالي. ومن اعترافاته الدقيقة للأسف أن القضاء معطل:” إلها 3 سنين العدلية فارطة هلق جايين إنتوا بدكم تقوموا المقتاية!!”، واعتدى حراسه إثر ذلك على النواب بالضرب.
هذا الوزير العوني لا يستطيع القيام بواجبه في إيقاف مهزلة توقيف البيطار، في حين يمكنه التهديد بإقالة قائد الجيش؟!
في ظل غياب القوانين نصبح ملزمين بالقبول بأن القتل والجريمة، أمر عادي ومن ضروريات حياة اللبناني. ألم يتم اغتيال مئات رجال الفكر والسياسة والصحافة والإعلام والدين والأمن، ولم تتمكن الأجهزة الأمنية والقضائية من كشف أي منها؟
العدالة معطّلة في لبنان منذ وقت طويل. وإرهاب القضاء حصل بالتدريج وتوجته عملية اغتيال القضاة الأربعة تحت قوس العدالة في عام 1999. منذ ذلك الحين خضع الكثير من رجال القضاء، إما خوفا وجُبنا وإما طمعا بمكاسب مادية تفوح رائحتها في أروقة قصر العدل. لكن اكتمال ضرب القضاء لم يحصل إلا في عهد الرئيس عون وبرعاية حزب إيران، فحصل غض نظر وتغطية من السلطات القضائية عن جميع التجاوزات الفاقعة للقاضية عون.
في حديث وزير العدل السابقو إبراهيم النجار، لتلفزيون “MTV”، أكّد أن البيطار يقول الحق والقانون. ولكننا نعيش في منطقة جنون قانوني وقضائي. لم تعد هناك ضوابط وكل شيء ممكن. القانون وجهة نظر. اتهم بالانحياز عندما وجّه اتهامه إلى رموز السلطة. ما حصل في مرفأ بيروت هائل، إنها جريمة ضد الإنسانية. صرنا في منطقة عدم إحقاق الحق. صار لأي محكمة أجنبية صفة لأن أحد أتباعها أصيب. صار لها حق وصلاحية متابعة ما جرى في بيروت.
إن جوهر رسالة استكمال التحقيق والمحاكمة هو أن لا أحد فوق القانون. لكننا في بلد عاش طويلاً تحت رحمة الاحتلالات، والاحتلال لا يكتمل إلا باحتلال القضاء. لذا كانت المعادلة التي أرساها الإفلات المطول من العقاب: استمروا بالقتل وستفلتوا من العقاب.
المطلوب الآن الضغط كي يتمكن قاضي التحقيق العدلي من إصدار القرار الظني. وإذا فشلنا في محاسبة المجرمين فعلى لبنان السلام.
ولنترك الأمر للجيل القادم ليتولى المهمة.
monafayad@hotmail.com