ما شهده عالمنا العربي مؤخرا من حوارات وآراء على منصات التواصل الإجتماعي حول وباء كورونا المستحدث أمر لم نشهده من قبل إزاء أي كارثة سابقة. فقد تبارى إليه الصغير والكبير، والجاهل والمتعلم، والصالح والطالح، والغبي والذكي، كل يدلي حولها بدلوه لهدف معين، محولا “تويتر” وأشباهه إلى ساحات للعراك والجدل والإسفاف وبذيء الكلام والتندر والكذب، ونشر الخرافات والأساطير والأوهام.
لا يعنينا هنا الكم! فذلك متوقع من أناس حبستهم ظروف الوباء المتفشي في المنزل، ولم يجدوا ما يشغلون به أنفسهم سوى الضغط على أزرّة هواتفهم النقالة لإرسال آلاف الرسائل أو إعادة تدويرها يوميا، خصوصا أولئك الذين ليس في قائمة إهتماماتهم قراءة كتاب أو مشاهدة عمل فني أو تعلم لغة جديدة أو البحث عما يجهلونه من معارف.
ما يعنينا هنا هو المضمون، بمعنى ما احتوتها الرسائل. وهنا مبعث الدهشة ومحور الاستغراب.
كتب صديقنا الأستاذ عثمان العمير تغريدة استغرب فيها من كيل المديح المبالغ للصين، منشأ الوباء ومصدره، وعدم الاكتراث بجهود دول أخرى عملت أشياء مدهشة وفورية لضمان سلامة وصحة شعوبها دون استخدام العنف والبطش والأسر والتعتيم الذي استخدمته بكين مع الملايين من مواطنيها. وفي هذا السياق تطرق العمير إلى جهود اليابان وكوريا الجنوبية وسنغافورة، وتجاهل ــ ربما سهوا ــ جهود دول الخليج التي قامت بعمل جبار لإنقاذ مواطنيها والمقيمين على أراضيها من الوباء الصيني عبر حزمة متكاملة من القرارات الشفافة إستهدفت حصر الوباء في أضيق نطاق جغرافي، ومساعدة المتضررين إقتصاديا ومعيشيا، وتقديم أعلى درجات خدمات الطواريء الصحية. وكان اللافت في الخليج أيضا أمران آخران هما تكاتف كبار رجال الأعمال والأثرياء مع الدولة في هذه الكارثة الوبائية، واستجابة المواطنين للإرشادات والتوجيهات الحكومية عن طيب خاطر مع تطوعهم بالآلاف لتقديم المساعدة.
ردا على كلام استاذنا العمير كتبتُ تغريدة تضمنت مجرد رأي مفاده أن المطبّلين للصين دون غيرها ربما فعلوا ذلك لدوافع أيديولوجية دفينة. وسرعان ما تبين من الردود التي وصلتني على حسابي أن الأمر كذلك بالفعل. بدليل أن تلك الردود حوّلت الموضوع إلى وجهة مغايرة لا خلاف حولها وهي أن الصين صارت تنتج كل شيء وبضائعها لا غنى عنها وأنها فرضت نفسها على الساحة شئنا أم أبينا، مذيّلة بعبارات مثل: “بلاش هياط يا منْ لا ينتج بلدك شيئا“، و“أنظر إلى ما تفعله الصين العظيمة لنجدة إيطاليا“.
لقد وجد الكثيرون في وباء كورونا فرصة للتنفيس عما في ضمائرهم من توجهات سياسية، أو لبعث ما صار فكرا فاشلا مقبورا، أو لبثّ السموم ضد الآخر المختلف فكرا. هنا التقى صاحب الفكر “الماوي” الذي لا يزال يعتبر الصين بلدا شيوعيا رائدا رغم تخلي الأخيرة عن رداء المعلم ماو وكتابه الأحمر وتعاليمه الحمقاء، مع أنصار نظام “ولاية الفقيه” الذين يراهنون على إعتلاء الصين لعرش العالم كي تتحرر طهران من العقوبات الأمريكية، لا سيما وأن بكين تساند النظام الايراني بشراء نفطه من وراء ظهر واشنطون، بل وتدعم سياساته في سوريا من خلال طريقة تصويتها في مجلس الأمن.
كما التقى مع هذين الصنفين من البشر كل أولئك اليساريين والقوميين والثوريين العرب الحالمين بعود زمن المد اليساري/القومي الآفل للقضاء على الأنظمة التي يعتبرونها في أدبياتهم “ملكيات رجعية” أو “حكومات كرتونية“. وانضم إلى هؤلاء بطبيعة الحال أعداء الولايات المتحدة والغرب والرأسمالية من “إخوان مسلمين” وأردوغانيين ليروجوا لخرافات مثل أن البنتاغون الأمريكي اخترع فايروس كورونا المستحدث في مختبراته ونثره على الصين من أجل عرقلة الزحف المقدس لبكين نحو مراتب القوة الأولى على مستوى العالم، إلى درجة أن أحد المغردين ــ وهو طبيب كما ادعى ــ خرج علينا في فيديو مصور ليرينا معقما مصنوعا في الغرب في العام الماضي ومكتوبا عليه “معقم خاص بفايروس كورونا“، ثم ليعلق مستغفلا المتلقي بقوله “لقد أنتجوا المعقم قبل نشرهم للفايروس“، مع أن العالم كله يعلم علم اليقين أن ذلك المنتج خاص بكورونا القديم وليس كورونا المستحدث. لكن كراهية الغرب المستأصلة في ضمائر أمثال هذا الشخص تدفعهم إلى إرتكاب أي حماقة وقول أي شيء.
وطالما أتينا على ذكر الخرافات والأساطير التي حفلت بها وسائل التواصل الإجتماعي مؤخرا، فليست هناك خرافة أكبر من تلك التي نشرتها مواطنة عراقية بالصوت والصورة وهي تولول وتقسم بأغلظ الأيمان أنها وأتباع مذهبها محصنون من الوباء ببركات الإمام الفلاني، وبالتالي لا يحتاجون إلى الحذر والحجر الصحي وإلتزام البيوت. ولم تكتف بذلك بل وجهت خطابا إلى المستشارة الألمانية “أنغيلا ميركل“، التي قيل أنها مصابة بفايروس كورونا، لتقول لها تعالي إلى هنا وتبركي بالضريح الفلاني وسوف تجدين نفسك شافية معافة في لحظات! فهل هناك استهبال أكثر من هذا.
وكان هناك بالطبع الصوت الفلسطيني العالي الذي تعودنا على رفضه لكل شيء، وإلقائه التهم ذات اليمين وذات اليسار كيفما اتفق. فقد ظهر أحدهم في فيديو مصور مرتديا الكوفية “العرفاتية” ليعلن أن ما يحدث “ليس سوى مؤامرة صهيونية إمبريالية ماسونية من صنع الولايات المتحدة وحلفائها من الحكومات العربية الرجعية“.
أما من أعيتهم الحيلة لإنتاج فيديوهات خاصة بهم لنشرها على الملأ، فقد ففبركوا وغيروا من محتوى فيديوهات جاهزة قديمة لإيصال ما يجول في خواطرهم، كذلك الذي وضع ترجمة عربية كاذبة على خطاب بالألمانية للمستشارة ميركل ليوحي للمتلقي أنها تعلن عن توصل طبيب ألماني من أصول تونسية للمصل الشافي، وأنها اتصلت بالشيخ راشد الغنوشي لتبشره بالخبر فبارك الأخير الإكتشاف، وأن المفاوضات جارية بين برلين وتونس للشروع في إنتاج ما سيقضي على الوباء نهائيا. فعل صاحبنا ذلك مستغلا عدم إلمام السواد الأعظم من مواطنيه العرب باللغة الألمانية، وفاته أن مجرد تدقيق بسيط في حديث ميركل يثبت عدم تلفظها لا بإسم تونس ولا بإسم الغنوشي. بعيدا عن هذا الغبي المنتمي على ما يبدو لإخوان تونس، ظهر شبيه له يروج لفيديو قديم عن تلاوة القرآن في تأبين شخصية مسلمة توفت في الولايات المتحدة مع تعليق منه نصه “اللهم بارك في كورونا الذي جعل أعضاء الكونغرس الأمريكي يجلسون صاغرين للإستماع إلى الذكر الحكيم“.
كم كان صديقنا الإعلامي الدكتور سليمان الهتلان صادقا حينما دعا إلى ضرورة فرض حجر تويتري على أمثال هؤلاء المغردين بتجاهلهم وعدم الرد عليهم. لكن ثبت أن عدم إخراس هؤلاء ووقفهم عند حدودهم يزيدهم جراءة على نشر أمراضهم وأوهامهم الأكثر خطورة من فايروس “كوفيد 19″ على صحة عقول العامة.
Elmadani@batelco.com.bh
*أستاذ العلاقات الدولية المتخصص في الشأن الآسيوي من البحرين