في مثل هذه الأيام قبل ربع قرن، استعادت الكويت حرّيتها. كان ذلك حدثا تاريخيا بكلّ المقاييس نظرا الى انّه عكس ارادة الكويتيين في مواجهة الاحتلال صفّا واحدا من جهة ووجود تحالف دولي ـ عربي يرفض الرضوخ للامر الواقع من جهة اخرى.
لولا ارادة الكويتيين ورفضهم ايّ تعاط مع المحتل، لما تحرّرت الكويت. ولولا وجود قائد عربي استثنائي مثل الملك فهد بن عبدالعزيز، رحمه الله، لما كان ممكنا، بالطبع اتخاذ المملكة العربية السعودية القرار الشجاع القاضي باستقبال هذا العدد الكبير من القوات العربية والدولية التي انطلقت من اراضي المملكة بقيادة الجنرال نورمان شوارزكوف من اجل تحرير الكويت واعادتها الى ابنائها.
في ذكرى ربع قرن على تحرير الكويت ورفع العلم الكويتي مجددا فوق كلّ شبر من اراضيها، لا بدّ ايضا من تذكّر ثلاثة امور.
الاوّل بعد نظر مارغريت تاتشر رئيسة الوزراء البريطانية وقتذاك التي اثّرت تأثيرا كبيرا على الرئيس الاميركي جورج بوش الاب واكّدت له ان لا مجال لترك المغامرة التي اقدم عليها صدّام تمرّ. لم تترك تاتشر اي مجال للتردّد امام رئيس اميركي، بدا في الساعات التي تلت الاحتلال في حال ضياع وراح يزن خياراته. اقنعته تاتشر بانّ لا خيار آخر غير هزيمة الاحتلال.
كان الامر الثاني الذي لا بدّ من تذكّره ايضا انّ الولايات المتحدة امتلكت في تلك المرحلة ادارة تمتلك رجالا بعيدي النظر يعرفون الشرق الاوسط والتوازنات القائمة فيه عن ظهر قلب. ضمّت تلك الادارة، اضافة الى بوش الاب بخبرته الطويلة في كل الميادين، بما في ذلك البقاء نائبا للرئيس ثماني سنوات (عهد رونالد ريغان)، وتوليه ادارة الـ”سي. آي. إي” والسفارة في الصين، رجلين آخرين لا يقلّان اهمّية عن الرئيس هما وزير الخارجية جيمس بايكر ومستشار الامن القومي الجنرال برنت سكوكروفت.
اتخّذت هذه القيادة قرارا في غاية الاهمّية تمثّل في توقف عملية تحرير الكويت عند حدود الكويت وعدم ملاحقة صدّام حسين الى بغداد. امتلكت تلك الادارة ما يكفي من الفهم لتعقيدات الشرق الاوسط وخباياه كي تلتزم حدودا معيّنة، على الرغم من الظلم الذي حلّ وقتذاك بعراقيين كثيرين اعتقدوا انّه آن الاوان للتخلّص من النظام القائم ايضا.
ادرك الثلاثي بوش الاب ـ بايكر ـ سكوكروفت ان الذهاب الى بغداد خلف صدّام حسين سيعني سقوط العراق في يد ايران التي حرّكت على وجه السرعة الميليشيات المذهبية التابعة لها. راحت هذه الميليشيات تدمّر، من منطلق مذهبي، كلّ ما يرمز الى الدولة في العراق والى المؤسسات الرسمية وصولا الى السجلات المدنية في مدن وبلدات وقرى استطاعت فيها ذلك.
تأجل تقديم العراق على صحن من فضّة الى ايران اثني عشر عاما. ما نشهده اليوم، من دون ان يعني ذلك انّ التخلص من النظام العراقي كان شيئا سيئا، يؤكّد الفارق الكبير بين ادارة بوش الاب من من جهة وادارتي بوش الابن وباراك اوباما من جهة اخرى. هناك ادارة كانت تمتلك المعرفة بالمنطقة والعالم لم تستطع البقاء في البيت الابيض سوى ولاية واحدة، وهناك ادارتان لا تعرفان شيئا عن العالم تمكّنت كلّ منهما من الفوز بولاية ثانية، كما لو ان الولايات المتحدة في حال سقوط مستمرّ، تخللتها فترة انتقالية، هي عهد بيل كلينتون.
يا لها من مفارقة جعلت كلّ هذا الظلم يلحق ببوش الاب الذي دفع ثمن التصرّف كرئيس للقوّة العظمى الوحيدة في العالم، رئيس يعرف ان مثل هذا الوضع يفرض اتخاذ قرارات حاسمة احيانا وتجنّب التهوّر في احيان اخرى. كان بوش الابن متهوّرا. نجد اوباما، الذي اراد اتباع سياسة مغايرة تماما لتلك التي اتبعها سلفة، في غاية الميوعة والاسترخاء وكأنّ الولايات المتحدة تستطيع السماح لنفسها بلعب دور المتفرّج في هذا العالم وترك فلاديمير بوتين يشارك في ذبح الشعب السوري، على سبيل المثال وليس الحصر.
امّا الامر الثالث الذي يستوجب التوقّف عنده، فهو الدور الذي لعبه كلّ من الاميرين السابقين جابر الاحمد وسعد العبدالله، رحمهما الله، والامير الحالي الشيخ صباح الاحمد في مجال تجييش العالم من اجل استعادة الكويت ولمّ شمل الكويتيين في معركة مصيرية كان يتوقّف عليها مستقبل كلّ مواطن.
في الخامس والعشرين من شباط ـ فبراير 1991، انتهى الاحتلال الذي بدأ في الثاني من آب ـ اغسطس 1990، عندما سعى صدّام حسين الى الانتهاء من دولة مستقلّة. لم يكن يعرف شيئا لا عن الكويتيين انفسهم ولا عن العرب الآخرين ولا عن العالم في مرحلة ما بعد سقوط جدار برلين. اسوأ ما في الامر انّه ادخل العالم العربي في مرحلة جديدة مهّدت الى ما نشهده اليوم. لم يستوعب انّ عدم اللحاق به الى بغداد، لا يعني بالضرورة انّ في الامكان تفادي الثمن الذي يجب دفعه نتيجة ارتكاب جريمة احتلال الكويت وتشريد شعبها.
يكفي ان صدّام قضى نهائيا على عامل الثقة المتبادلة الذي ميّز علاقته بفهد بن عبد العزيز وبالشيخ زايد بن سلطان آل نهيان الذي لم يوفر جهدا الّا وبذله لتفادي الكوارث التي حلّت بالعراق والعراقيين.
يكفي ايضا انّه لم يستغلّ السنوات الثمان التي امضاها بيل كلينتون في البيت الابيض كي يعيد تأهيل نظامه. لم يفهم حتّى معنى الحديث الذي ادلى به كلينتون بعيد تسلّمه الرئاسة واعلن فيه انه “ليست لديه قضية ذات طابع شخصي” معه.
كان سينقذ العراق، لو اقدم على الاصلاحات المطلوبة، وفهم ما قاله له الملك حسين في رسالة بعث بها اليه صيف العام 1995. قال له العاهل الاردني الراحل في تلك الرسالة التي حملها اليه رئيس الديوان الملكي وقتذاك مروان القاسم ان القرارات الدولية الصادرة في حقّ العراق ليست قرارات قانونية. اكدّ له في الرسالة التي لم يأت رد عليها يوما انّ هذه القرارات “قرارات سياسية” غير قابلة للاخذ والرد استنادا الى القانون الدولي وما ينصّ عليه.
كابر صدّام حسين وعاند الي ان جاء جورج بوش الابن الذي اقدم بدوره على مغامرة في العراق استكملها باراك اوباما بما هو اسوأ منها باستسلامه نهائيا لايران.
حافظت الكويت على نفسها. يضع الشيخ صُباح الاحمد حواجز بين الحين والآخر لتذكير الكويتيين بان العقلانية تحمي الدول والمؤسسات. بقيت الكويت وصار العراق في مهبّ الريح. الاخطر من ذلك كلّه ان الفرص التي سنحت للرئيس العراقي الراحل في مرحلة ما بعد تحرير الكويت كانت فرصا ضائعة ليس بالنسبة الى العراق وحده الذي دفع وسيدفع ثمنها غاليا، بل للمنطقة كلّها ايضا.
بعد ضياع العراق… ضاعت المنطقة ايضا.