سيكون صعبا على ايران التراجع في لبنان بعد كلّ ما حققته في السنوات الأخيرة على مراحل بدءا من التخلص من رفيق الحريري في الرابع عشر من شباط – فبراير 2005 وصولا الى تسمية رئيس الجمهورية اللبنانية المسيحي في السنة 2016. الأكيد ان احدى اهمّ المحطات التي أوصلت لبنان الى ما وصل اليه حرب صيف العام 2006 بين “حزب الله” وإسرائيل، وهي حرب انتهت بانتصار ساحق ماحق للحزب على لبنان مؤسسات وحكومة وشعبا.
مهّد هذا الانتصار لغزوتي بيروت والجبل في ايّار – مايو 2008 بهدف اخضاع السنّة والدروز بعد ضمان غطاء مسيحي لإيران وادواتها جسّدته وثيقة ما مخايل التي وقعت في شباط – فبراير 2006 مع “التيّار الوطني الحر”.
جاء بعد ذلك، نشوء الوضع القائم حاليا في لبنان، وهو وضع لم تعكّره سوى استقالة حكومة سعد الحريري في التاسع والعشرين من تشرين الاوّل – أكتوبر الماضي استجابة لمطالب ثورة شعبية تعمّ كلّ الأراضي اللبنانية، وهي ثورة على ما بات يسمّيه الناس العاديون “عهد حزب الله”.
هناك وضع لبناني تمتلك فيه ايران أكثرية في مجلس النوّاب اللبناني في ضوء الانتخابات التي أجريت في السادس من ايّار – مايو 2018 بموجب قانون فصلّه “حزب الله” على مقاسه. سمح ذلك بتشكيل حكومة كان لـ”حزب الله” فيها ثمانية عشر وزيرا من اصل ثلاثين، بما في ذلك وزارة الخارجية ووزارة الدفاع. في هذه الحكومة، التي استقالت أخيرا، ثلاثة وزراء لـ”حزب الله”. وهذا يحصل للمرّة الاولى، منذ بدأ الحزب يصرّ علي ان يكون داخل الحكومة في مرحلة ما بعد اغتيال رفيق الحريري.
شارك الحزب للمرّة الاولى في الحكومة بحياء. كانت تلك الحكومة برئاسة نجيب ميقاتي وانضم اليها وزير محسوب على “حزب الله” يدعى طراد حمادة. بعد ذلك، لم يعد الحزب يتردّد في فرض وزيرين على أي حكومة وصولا الى الحكومة المستقيلة التي كان له فيها ثلاثة وزراء تولّى احدهم حقيبة الصحّة.
في ظلّ هذه الظروف، التي رافقت استقالة الحكومة اللبنانية، يماطل رئيس الجمهورية في الدعوة الى استشارات نيابية لتكليف شخصيّة سنّية تشكيل حكومة جديدة من دون اخذ في الاعتبار لما آل اليه الوضع في لبنان. بكلام أوضح، لا يستطيع سعد الحريري تشكيل حكومة الّا في اطار شروط معيّنة لا يمكن لإيران القبول بها. لا تستطيع ايران القبول بهذه الشروط على الرغم من ان ذلك سيشكل ضربة قوية للبنان الذي يمرّ في مرحلة حرجة بسبب وصول اقتصاده الى حافة الانهيار نتيجة عوامل عدّة في مقدّمها الجهود التي بذلها “حزب الله” لعزل لبنان عن محيطه العربي كي ينتهي البلد تابعا للمحور الذي تقوده ايران في المنطقة تحت شعاري “المقاومة” و “الممانعة”.
ما الذي يجعل ايران تتمسك بموقفها الرافض لتسهيل تشكيل حكومة قادرة على استعادة ثقة العالم العربي والمجتمع الدولي، على رأسه الولايات المتّحدة؟ يعود ذلك الى امرين أساسيين.
الامر الاوّل ان ايران لم تعتد التراجع. تعرف جيّدا ان تراجعها في مكان يعني التراجع في أماكن أخرى. عندما تضع يدها على ايّ بلد، تبقى مصرّة على الإمساك بهذا البلد الى ما لانهاية من منطلق انّها قوة عظمى إقليمية وانّه يحقّ لها ما لا يحقّ لغيرها. هذا ما حدث في العراق وسوريا واليمن وما زال يحدث في لبنان حيث تعتبر ايران “حزب الله” جوهرة التاج في امبراطوريتها التي تظنّ انها قائمة فعلا.
امّا الامر الثاني، فيعود الى ان ايران لا تريد ان تتعلّم من تجربة الاتحاد السوفياتي ومن انهيار جداد برلين تحديدا في مثل هذه الايّام من العام 1989. لا تريد الاعتراف بانّه لم يكن ممكنا لبرلين الشرقية الانتصار على برلين الغربية وذلك لاسباب عدّة. في طليعة هذه الأسباب انّ ليس لدى برلين الشرقية من نموذج تقدّمه باستثناء البؤس والجهل والتخلّف في ظلّ نظام امني من النوع نفسه الذي يتحكّم بايران منذ العام 1979. لعلّ اكثر ما ترفض ايران تعلّمه انّ الاتحاد السوفياتي انهار لاسباب اقتصادية اوّلا وأخيرا. لا تستطيع أي دولة في العالم لعب دور يفوق حجمها، خصوصا خارج حدودها في حال كان اقتصادها هشّا مثل الاقتصاد الايراني.
هناك بصيص امل ظهر في لبنان تريد ايران خنقه. ظهر هذا البصيص عبر ثورة الشعب اللبناني التي أطاحت الحكومة الثلاثينية. أظهرت هذه الثورة ان هناك وعيا كبيرا لدى اللبنانيين، من كلّ الطوائف وكلّ الطبقات الاجتماعية لضرورة التخلّص من كلّ رموز الطبقة السياسية من دون اسثناء. لذلك كان الشعار “كلن يعني كلّن”. لذلك كان هناك ايضا تحرك في المناطق الشيعية ورفض واضح للناس العاديين لكلّ ما يمثّله “حزب الله” و”العهد القوي” الذي ليس قويّا الّا بسلاح الحزب الذي ليس سوى لواء في “الحرس الثوري” الايراني.
تفرض أي ترجمة للايجابيات، التي بدأت باستقالة الحكومة، تشكيل حكومة برئاسة شخصية لبنانية قادرة على التعاطي مع العرب والعالم والمؤسسات الدولية. شخصية مرحّب بها في واشنطن وباريس ولندن وبرلين وموسكو وبيجينغ… وفي الرياض وأبو ظبي. الأكيد ان هذه الشخصية لا يمكن ان تكون لها علاقة بـ”حزب الله” من قريب او بعيد او ان تشبه جبران باسيل وهذا النوع من السياسيين الطارئين الذين ظهروا في غفلة من غفلات الزمن.
هل تسمح ايران بان يكون للبنان بعض الامل كي يتجاوز الانهيار المتوقّع ام تعتبر ان عليها خنق مثل هذا الامل في المهد؟ في الواقع، لا يوجد أي امل للبنان عندما تمنع ايران تشكيل حكومة معقولة ومقبولة تضمّ اختصاصيين يهتمون بمعالجة المشاكل المطروحة على رأسها الاقتصاد.
في النهاية، يدرك أي ذي عقل انّ هناك في المجال الاقتصادي موازين قوى في هذا العالم. تميل هذه الموازين لمصلحة الولايات المتحدة. لا يستطيع لبنان تجاهل ذلك، بما في ذلك الشروط التي لا بدّ من توفرها لتشكيل أي حكومة جديدة كي تمتلك القدرة على إعادة ثقة العالم العربي والمجتمع الدولي بلبنان.
المخيف انّ ايران لا يمكن ان تعترف بانّها خسرت في كلّ مكان تدخلت فيه، بما في ذلك لبنان. خسارتها عائدة لسبب في غاية البساطة هو ان رهانها على ان الشيعة العرب، خصوصا في العراق ولبنان سيضعون انتماءهم المذهبي فوق انتمائهم الوطني. هناك تحوّل أساسي في العراق ولبنان لا تريد ايران الاعتراف به او رؤيته. هذا العمى الايراني الذي يرافقه عناد ليس بعده عناد يمكن ان يكلّف لبنان الكثير للأسف الشديد!