يقول امين معلوف في كتابه “غرق الحضارات”:
“ولدت في صحة جيدة بين يدي حضارة تموت وعشت حياتي شاعرا بالنجاة من الموت بينما الذي حولي ينهار مرمدا”.
هكذا يرى المعلوف شرق ولادته دمارا، ناظرا اليه من غرب اقامته.
هي هذه الجدلية الازلية بين الشرق والغرب والتي لا تنفك تتمظهر وتتغير في كل مرحلة من مراحل التاريخ، خصوصا بعد سيادة الحضارة الاوروبية في القرون الاخيرة والتي انتجت معها مفاهيمها ولغتها ومفرداتها ونظمها ونمط حياتها والتي اطلقت معايير الحداثة ما قبلها وما بعدها.
وهو الشرق بتاريخه وسحره والغرب بحداثته واستعلائه، والذي انتج مفاهيم استشراقية تميل بمعظمها لجهة الرابح، دافعة الجميع الى الانبهار من جهة، والدفاع اوالتسليم ان لم نقل الاستسلام من جهة اخرى.
والسؤال هو هل نحن امام صراع وتصادم حضارات ام صراع “الامبراطوريات الكبيرة والصغيرة”، الاميركية والاوروبية والصينية والروسية والفارسية والتركو /العثمانية وغيرها، حيث تتحول اراضي دول كثيرة اماكن للمبارزة حول النفط والغاز والمعادن وغيرها من المواد الخام والمصنعة، كما يحصل حاليا في المنطقة العربية التي حول ربيعها الجميل الى شتاء قاس شاركت في تشكيل غيومه معظم القوى الاقليمية والدولية.
انه الاقتصاد الذي كان وما زال محور حراك الشعوب والامم والامبراطوريات على مر العصور.
فالمنطقة العربية كانت ولا تزال تشكل جزءا من ممر اساسي بين الغرب والشرق، فهي حلقة من حلقات السلسلة الواسعة التي تمتد من المتوسط كما من البحر الأسود الى كازاخستان ومنغوليا مرورا بالكوكس ودول السهوب كما بتركيا وإيران وافغانيستان. حلقة وصل بين الغرب الاوروبي والاميركي والشرق الصيني والهندي وصولا للباسيفيك دون ان ننسى الروسي الاوراسي.
لقد اصبحت كلمة طرق الحرير تخترق المقالات والمناظرات والتحليلات والتصريحات، حتى ان بلدا صغيرا كلبنان لا ينفك العملاق الصيني عن طرق ابوابه، ويكاد المثل القديم يتحول من:
من اطلبوا العلم ولو في الصين الى اطلبوا الاستثمارات ولو في لبنان.
وقد شكل الحرير ومنذ القدم السلعة الأغلى والتي جذبت حتى البدو الاشداء والمتوحشين في سهوب اسيا واطراف اوروبا الشرقية والذين كانوا يبادلونها باالأحصنة التي شكلت جزءا من اقتصادهم الى جانب غيرها من انواع الماشية والجلود، كما “بالخدمات” باعتبارهم شبيحة الطرقات وأرياف المدن. كما جذب الحرير سيدات المدن الرومانية و بعض رجالها، لدرجة انه انهك الاقتصاد الروماني وخلخل واقعه الاخلاقي والاجتماعي، حتى ان مجلس الشيوخ سن قوانين خاصة لمنع الرجال من لبسها.
والحرير الصيني العالي الجودة شكل عملة الى جانب الحبوب، وكان يدفع كراتب للعسكر المرابط في الاماكن البعيدة والتي لا تنفع معها العملات المعدنية، حتى انه تحول الى عملة عالمية كالذهب والفضة.
ومع ان الحرير لم يعد عمليا، الا ان كل الطرق التي يجرى التخطيط لها والتي تربط الصين والهند والخليج بضفتيه بشرق اسيا وبوسطها وباوراسيا وصولا لاوروبا الغربية، وكما بغربها بالمشرق وبمصر وافريقيا السمراء والسوداء، بما فيها الطرق البحرية، وحتى طرق المعلومات اصبحت حريرية بامتياز.
وطريق الحرير هو تعبير أطلقه جيولوجي الماني يدعى فردينان فون ريتشهوفن في القرن التاسع عشر على الطريق التي ربطت الصين والهند بالبحر الاسود، كما بالمتوسط مرورا ببلاد فارس ووسط اسيا، بعد ان تمددت الأمبراطورية الصينية باتجاه كوريدور غانسو وابعدت شبيحة السهوب، مسهلة التجارة للمرة الاولى مباشرة عبر الطريق الذي يمر بمدن صعدت ونمت بسبب من موقعها على الخطوط التجارية.
في منتدى للاستثمار الصيني عقد في بيروت تحت شعار استعادة موقع لبنان المالي والخدماتي والسياحي (وتبعه لاحقا منتدى بيجينغ من اجل الحزام والطريق) قال السفير الصيني “إن لبنان يمكن ان يصبح لؤلؤة ساحرة في الحزام والطريق” . وهذا السفير لا ينفك يدغدغ احلام رئيس غرفة طرابلس في مشروعه طرابلس الكبرى عاصمة اقتصادية للبنان، عارضا خدمات العملاق الصيني الذي ما زال يحتفظ بصورة ماوتسي تونغ في الساحة المحرمة(ربما للتذكير بسطوة الحزب وبثورة ماو الثقافية) بينما رمى كتبه “المقدسة” جانبا ليبني ناطحات السحاب والطرق العملاقة والاقتصاد الذي اصبح الرقم الثاني بعد الاقتصاد الامريكي، مستعيدا العظمة الصينية التي شكل طريق الحرير وغيره من الطرق البحرية واسطة وصول بضائعها النفيسة الى القصور والبيوت الاوروبية الغنية، والتي تزين متاحفها في مدنها الكبيرة، ابان نهوض اوروبا.
في زيارة لابنتي في لندن في اوائل ٢٠١٩ وقع نظري في مكتبتها الصغيرة على كتاب طرائق الحرير لبيتر فرانكوبان، مع عنوان فرعي “تاريخ جديد للعالم”. ومن الطبيعي ان احاول تصفحه بعد ان اصبحت كلمة طريق الحرير بلسما تنتظره البشرية لاعادة وصل اجزائها المتناثرة في الحروب والصراعات والمذابح، خصوصا اننا في الشرق العربي والاسلامي، ما نزال نعيش صدمة الهوة الحضارية بيننا وبين الغرب، والتي يبدو ان ردمها بحاجة لاعادة قراءة التاريخ وتتبع تشكل الحضارات من وجهة نظر جديدة، علنا نحدد معالم واسس الدينامية التي نقلت مراكز العلم من بغداد ودمشق وسمرقند وقرطبة الى اوكسفورد وكامبريدج وهارفارد ويال.
وفي تصفحي للتعليقات الكثيرة على الكتاب لفتني تعليق ورد فيIrish left review يقول
إن المؤلف هو هيرودتس القرن الواحد والعشرين.
والمؤرخ هيرودتس عاصر جدود الاسكندر الكبير الذي تتلمذ على يد ارسطو والذي اثرت فتوحاته، في مصر والمشرق وبلاد فارس وصولا للهند، على جميع جوانب الحياة في الشرق والغرب (الذي كان يعني عمليا مدن شمال وغرب المتوسط في تلك الفترة)، حتى أن تماثيل بوذا اصبحت دارجة كما تماثيل ابولو، كما اختلطت اللغات والاداب الكلاسيكية الهندية والفارسية واليونانية.
وجاذبية فرنكوبان تعود ايضا الى الأسباب الخاصة التي تقف وراء اختياراته الاكاديمية وابحاثة الفريدة التي انتجها في اوكسفورد خصوصا.
ويقول المؤلف انه منذ صغره كان يتأمل يوميا في خريطة العالم الموضوعة في غرفته، والتي حفظ عواصم دولها وجبالها واوديتها وانهارها، ما جعله يتساءل لماذا يتم التركيز فقط في المدرسة على اوروبا الغربية والولايات المتحدة، وكأنها تختصر العالم والكون. ويشير المؤلف ان بداية تفتحه حصلت مع كتاب لاريك والف اهداه له والده في عيد ميلاده الرابع عشر، يقول أريك فيه ان الغرب يمارس سردية باردة واستعلائية تستند على ان الديقراطية والحداثة والتصنيع هي امتداد للتنوير والنهضة واوروبا المسيحية ثم إلى روما واثينا، ما يؤشر للتفوق الغربي الازلي او لنهاية التاريخ وحتى بدايته بمعنى من المعاني. وهذه السردية ساهمت بالعنصرية وبسيادة الانسان الابيض. (وما كتبه منفذ مجزرة المسجدين في نيوزيلاند على البنادق يظهر الأثر السلبي للسردية الغربية للتاريخ ولموضوع الحضارات)
في هذا الكتاب يدرس فرنكوبان التاريخ من وجهة نظر علمية ومحايدة، مختلفة عن سردية الطرف المنتصر، ويعلن منذ البداية انه مهتم بمعرفة نشوء روسيا وبلاد وسط اسيا وفارس وبلاد ما بين النهرين، وبدو السهوب الذين تحولوا لامبراطوريات اسطورية كالمغول والتيمور والعثمانيين وحتى المماليك. كما يعلن انه يريد ان يدرس اصول المسيحية الشرقية من جهة اسيا واديانها الأخرى كاليهودية والاسلام كما البوذية والهندوسية والزروستية، وكيف تفاعل الغزاة الصليبيون مع شعوب المشرق. درس المؤلف في المدرسة لغات كثيرة بينها الروسية والعربية للاطلاع المباشر على كلاسيكيات الشعوب في المنطقة التي تشكل الجسر بين الغرب والشرق.
لم يكتشف بيتر احداثا جديدة، بل غرف من كل ما وجد وكتب، خصوصا من المؤرخين والجيوغرافيين والرحالة العرب والاتراك والفرس والصينيين، كما اليونانيين والمؤرخين الغربيين عموما. وهو أعاد ترتيب الاحداث والتطورات التاريخية باتجاه تثبيت نظرية آمن بها منذ البداية واشار لها في المقدمة. وهي ان الجسر الذي ربط الغرب والشرق شكل المرجل الذي صنعت فيه اللغات والافكار، بما فيها الاديان المتنوعة، كما تلاقحت فيه الحضارات.
ويؤكد بيتر فرانكوبان:
اولا: ان بداية التطور الاجتماعي التاريخي حصلت في مدن بابل ونينوى وعموم بلاد ما بين النهرين والتي ظهرت فيها “جنات عدن” والانبياء الاوائل بما فيهم ابو الانبياء ابراهيم.
كما ان قوانين وشرائع حمورابي ظهرت هناك قبل قوانين الرومان بالفي سنة.
واولى براعم العلوم تفتحت هناك، خصوصا علوم الرياضيات التي تعاملت مع قضايا توزيع الاراضي الزراعية.
ثانيا: ان تبادل البضائع القادمة من الشرق والغرب، بما فيها “العبيد” واحصنة ومواشي بدو السهوب (الممتدة مراعيهم من البحر الاسود وبحر قزوين وحتى منغوليا) كان يتم في مدن وحواضر عامرة في اواسط اسيا وخصوصا في المدن الاكثر تحضرا في كوشان وفارس وموزوبوتاميا(بلاد ما بين النهرين) كمرف وراي وبكتريا ومتروبوليس وبابل.
لذا كان طبيعيا أن يتوجه الاسكندر المقدوني نحو مصر صاحبة الحضارة الفرعونية والانتاج الوفير في دلتا النيل ِلاخضاعها اولا، بانيا الاسكندرية العظيمة، ومن ثم التوجه نحو المشرق الفينيقي والكنعاني، ثم وسط اسيا الغني بموارده وفنونه وصروحه وثقافته ومنتجاته. لم يتوجه الاسكندر نحو اوروبا الخاوية الا من الصراعات الدموية والامراض انذاك.
والرومان فعلوا نفس الشيء مع تركيز اكبر على البحر الاحمر والشرق الاقرب كفلسطين ولبنان وسوريا وبناء أو تطوير مدن ومراكز ومرافئ (كبترا صلة الوصل بين المتوسط والجزيرة العربية، وتدمر فينيسيا الشرق في الصحراء) تربطهم بالخليج والهند والصين، كما بفارس ووسط اسيا وسهوبها. وقد اقام الرومان نظاما ضرائبيا قاسيا ومتينا وصل لحد تعداد كل الرجال والمواليد لخدمة هذا النظام. وهذا عنى ان ميلاد السيد المسيح بالنسبة لهم شكل مشروع انتاج عمل وضريبة لبيت المال في روما، قبل ان “يصلبه” بلاطس لاحقا نزولا عند رغبة احبار اليهود الخائفين من الدعوة الجديدة.
واذ احتل الرومان الأشداء معظم اوروبا رغم خوائها، فقد تركوا لندن لمصيرها المحتوم عند اول انتكاسة في المركز رغم مناشدة اهلها للجنود الرومان بالبقاء لحمايتهم.
ثالثا: لقد ترافق تبادل البضائع مع تبادل الافكار والعادات والعلوم والاداب. وكان يترافق احيانا مع جولات قاسية من العنف والتدمير والمذابح، فضلا عن انتقال الامراض الفتاكة كالطاعون. وكانت تدمر مدن او تنزوي مدن وتنشأ مدن أخرى، خصوصا في الطرق التجارية الجديدة التي يجب تأمينها وحمايتها بواسطة الاسوار والابواب والعسكر من الصين وصولا للمتوسط ، كما للبحر الاسود وما يليه. وكانت تنشأ معارض للمنتجات في بعض المدن من قبل التجار الذين شكلوا الصمغ الذي كان يربط المدن والدساكرعلى طول طرق الحرير.
وقد شكلت الاديان محورا اساسيا في التفاعلات كما في الصراعات بين الشعوب والامبراطوريات، خصوصا بعد ان تحولت المسيحية الى دين الدولة الرومانية الرسمي مع الامبراطور قسطنطين بعد اضهاد طويل.علما ان تسامح الارستقراطية الفارسية سمح بتمدد كبير للمسيحية في اواسط اسيا وشرقها وحتى ضمن بدو السهوب الاكثر تخلفا وغرابة.
رابعا: شكل ظهور الاسلام في منطقة هادئة نسبيا،تطورا نوعيا هائلا، وخلال مرحلة من الحروب الدامية الفارسية/ الرومانية انتهت بانتصار الرومان بقيادة هركليتس وادت لانكماش اقتصادي عام، بما فيها في بلاد الحجاز. والاسلام اعطى العرب المتفرقين هوية واحدة ولغة واحدة بالدعوة والقوة معا. ومع نشوء الخلافة وفتوحاتها بكل الاتجاهات وحد هذا الدين الصاعد العرب ببدوهم وحضرهم في عموم الجزيرة العربية، وحولهم الى امبراطورية عالمية تمددت سيطرتها الى العراق وبلاد فارس ووسط اسيا وبعض الهند والصين، كما لسوريا وفلسطين ومصر وافريقيا السمراء وبعض السوداء وصولا لاسبانيا وبعض بلاد الغال، قبل ان يتراجعوا باتجاه الاندلس التي حكموها قرابة ثمانية قرون، بعد خسارتهم معركة كبيرة حصلت بين بواتيه وتور.
ويقول فرانكوبان إن المسلمين المتفوقين حضاريا، لم يروا في اوروبا الغربية شبه الخاوية ما يستحق تكرار المحاولة، وليس لأنهم عجزوا عن ذلك .اذ ان تركيزهم الاقتصادي كان على المتوسط وعلى مصر والمشرق وعموم اسيا، حتى أنهم عززوا طريق الحرير بما سمي لاحقا طريق الفرو بتجارتهم الواسعة مع بدو السهوب الذين وصف ابو الفضلان مناطقهم ونمط حياتهم الغير مألوفة وبعض المحطات التجارية التي تمر بهم كمن يصور فيلما تسجيليا.
وبينما كان الخيام والخوارزمي وابن سينا يبحثون في حلول للمعادلات الرياضية والمشاكل الطبية، كانت مقاطعات ودول اوروبا الغربية تغرق في ظلام الجهل والمرض والتقاتل، حتى بعد قرون من غزو قبائل البدو والبرابرة القادمة من اوراسيا، وبينهم قبائل الهان المرعبة بقيادة اتيلا والتي انهت سيطرة روما، بينما نجت من هولها القسطنطينية ببعض التحالفات مع قبائل تركية قوية وبشق النفس.
وكان على اروروبا ان تنتظر الصليبي “اديلايد” ليأتي بكتب الرياضيات من مكتبات دمشق وانطاكية لتنجب لاحقا علماء رياضيات، امثال تارتاغليا وفرراري وغيرهما ليتابعوا بحث معادلات الخيام والخوارزمي الرياضية، علما أن علماء العرب والمسلمين إستندوا على ما وصلهم من اليونان والهند ومصر وبقية الحضارات.
ويؤكد فرنكوبان بان التسامح مع الاديان التوحيدية الأخرى والإنفتاح على شعوب البلاد التي احتلوها، شكل بشكل عام السمة الابرز لسادة العالم الجدد. واذ يقول ان الصراعات الداخلية رافقت صعود المنتصرين الجدد، خصوصا بعد تنامي انقساماتهم المذهبية والقبلية، كما لاحقا مع دخول المماليك وغيرهم من الشعوبيين في بلاد الخلافة، الا ان ذلك لم يمنع من تمددهم خصوصا في الاطراف، كما لم يمنع بان يبنوا، وهم متفرقون، مدنا مهمة بينها بغداد الاسطورية في الشرق وقاهرة المعز في مصر وقرطبة العلم في الأندلس.
خامسا:
لطالما شكلت تجارة”العبيد” ركنا اساسيا في اقتصاد الامبراطوريات والدول في التاريخ القديم، خصوصا في الامبراطوية الرومانية. وقد لعب الاسكاندينافيون الفايكنغ والراس عديمي الرحمة (ومنهم تكون لاحقا الشعب الروسي)في مراحل لاحقة ادوارا كببرة في هذه التجارة. كانوا يأتون “بالبضاعة”من غزواتهم من اوروبا الوسطى( السلافية من( slave ومن اوروبا المسيحية ايضا، كما من بعض مناطقهم التي يغزونها، ويبيعونها للمسلمين الاغنياء، سواء عن طريق الحرير في اوراسيا بالتبادل مع بدو السهوب، اوبالذهاب مباشرة لبغداد عاصمة الخلافة العباسية. ونشط أيضا التجار اليهود في تجارة العبيد، كما بعض الاوروبيين، وخصوصا تجار فينيسا الذين تاجروا حتى بأسرى المدن الايطالية المنافسة، ما أثار حفيظة واستنكار البابا للتجارة “بالرجال الاحرار” المسيحيين.
وتوقف الفايكنغ لاحقا عن هذه التجارة بعد ان تحولوا لاقتصاد الحماية في مناطقهم والمناطق الاوروبية التي يحتلونها او يهددونها، قبل ان يتحضروا ويكونوا دولا يقوم اقتصادها على الانتاج وتبادل البضائع.
سادسا: أوروبا في القرون الوسطى
لقد شكلت دول وامارات ومقاطعات اوروبا الغربية في القرون الوسطى قوى اقليمية متصارعة ومتخلفة إلى حد ما، مع تمايز نسبي لبعض المدن المتوسطية كفينيسيا وجنوى وفلورنس .ومع ذلك فقد بنى الملوك والامراء ورجال الدين الكنائس والكاتدرائيات القوطية الرائعة(ككاتدرائية نوتردام) وأقاموا الصروح والتمائيل والنصب الضخمة، كما شجعوا فنون الرسم والنحت والعمارة التي اقتضتها المنافسات والتشاوف وجنون العظمة، فضلا عن اهميتها الدينية نظرا لسيادة الكنيسة وسيطرتها على الحياة العامة ودورها الاستثنائي في تلك الفترة.
ويؤكد فرانكوبان ان بناء الصروح والمعابد وعموم الفنون، كما اتباع انماط الحياة الرغيدة، اقتبسها اليونان والرومان ولاحقا اوروبيي الداخل من الحضارات الفرعونية والشرقية واصبحت معيارا من معايير القوة والعظمة لاي دولة او امارة أو مقاطعة أو مدينة أوروبية.
والمعروف ان الحملات الصليبية التي دعا لها البابا اوربان الثاني تحت راية الصليب وضمن شعار انقاذ المؤمنين في القدس والمشرق، اتت استجابة لاستغاثة امبراطور بيزنطيا اوريليوس القلق من تضاؤل نفوذه في الاناضول، نتيجة تصاعد نفوذ المجموعات التركية ذات الاصول القبلية السهوبية(وهي التي ستؤسس لاحقا امبراطورية ستحتل كل اراضي بيزنطيا والبلقان بما فيها القسطنطينية عاصمة الامبراطورية(.
لم تؤد هذه الحملات التي حملت الاوروبيين الغربيين الى قلب العالم الى توحيد فعلي للمتنافسين، كما لم تحولهم لقوى عالمية على غرار اثينا وروما والقسطنطينبة والامبراطويات في الشرق. ومع ذلك فقد فتحت لهم للمرة الاولى ابواب الاقتصاد والاجتماع والثقافة والعلوم في الشرق المتقدم . وقد حمل الصليبيون معهم للمشرق خلافاتهم وصراعاتهم واطماعهم وجشعهم وعنفهم الأعمى( ارتكبوا مذابح رهيبة، خصوصا في القدس التي دخلوها سنة ١٠٩٩ بعد حصار طويل، كما عاث فرسانهم فسادا وقتلا ورعبا في اجتياح القسطنطينية نفسها بعد قرن، حتى قال احد الكهنة اليونانيين عنهم، انهم وحوش على شكل بشر). ولاحقا عادوا إلى بلادهم بعد انهيار مملكتهم في القدس وسقوط قلاعهم والمدن الأخرى وبعد ان اكتسبوا بعضا من عادات الحياة المشرقية.
وقد حالف الحظ الاوروبيين الغربيب حين توقف المغول عن متابعة احتلال اوروبا والفتك بها كما فعلوا في كل مكان بعد ان اجتاحوا الكوكس وهنغاريا والبلقان، نتيجة وفاة الخان الأكبر فجأة وقرارهم بالعودة لتنظيم ترتيبات “انتخاب” الخلف المعقدة، ما جنبهم مصيرا مشابها لما حصل لهم قبل قرون حين استبيحت حواضرهم، بما فيها روما العظيمة.
والحقيقة فان عين المغول كانت على الشرق وطرق الحرير، حيث احتلوا الصين وبنوا عاصمة جديدة واصبحت بكين الحالية، وعلى وسط اسيا والشرق الاوسط حيث احتلوا ايران الكبرى، وتقدموا بقيادة هولاكو باتجاه عاصمة الخلافة العباسية بغداد ففتكوا بها فتكا رهيبا، كما احتلوا دمشق، وعلى فلسطين ومصر حيث اصطدموا بالمماليك وهزموا بعين جالوت.
والمماليك هم من اخرج اخيرا الصليبيين من بقية مدن المشرق، خصوصا عكا وصور وصيدا وبيروت وطرابلس، وانهوا حلم اوروبا المسيحية في الشرق دون ان تنتهي المسيحية من الشرق الذي ولدت وتأصلت فيه.
ومع ذلك يمكن تسجيل ملاحظتين اساسيتين
أ- ساهمت الحملات الصليبية بتحديد شكل المستقبل السياسي لاوروبا الغربية في القرون الوسطى، حيث اصبحت المسيحية القاسم المشترك بين الدول الاوروبية، واصبح البابا يملك سلطات سياسية وعسكرية وليس فقط دينية.
ب- لم تتراجع نفوذ الدول- المدن الايطالية البحرية، خصوصا العدوتين اللدودتين فينيسيا وجنوا بعد عودة الصليبيين من المشرق، بل حافظت على قوتها وعلاقاتها داخل اسيا ومصر وشمال إفريقيا، فاتحة خطوطا تجارية عن طريق البحر الاسود وسهوب روسيا واوراسيا والكوكس وصولا لايران وافغانستان والهند والصين وكل الشرق الاقصى داخل اراضي الإمبراطورية المغولية الواسعة. فالمغول وسعوا طرق التجارة العالمية وسهلوا عمليات التبادل بين الشرق والغرب وخففوا الضرائب لتعزيز طريق الحرير، علما ان التسامح الديني كان سائداعندهم، اذ انه لم ينشأ دين خاص للامبراطورية قبل ان ترثها تيمور المسلمة ، كما حافظت فينيسيا وبعض المدن الإيطالية على خطوطها التجارية السابقة عبر بيروت والاسكندرية والقسطنطينية ومدن الشمال الافريقي، مشكلة حلقة وصل تجارية بين الشرق واوروبا، وقد شكلت رحلات ماركو بولو وابن بطوطة وحملات القائد الصيني زنغ هي مراجع مهمة لفهم خطوط المواصلات البرية والبحرية التي ربطت العالم ببعضه البعض وحولته الى عالم معولم.
سابعا: صعود اوروبا الغربية
شكل اكتشاف الطرق البحرية هدفا عند الاوروبيين، خصوصا الاطلسيين، حيث كان المتوسط الاوروبي حكرا على اساطيل المدن الايطالية في القرون الوسطى. والبرتغاليون كانوا سباقين في هذا المجال، اذ كانت سفنهم التجارية تجوب سواحل الاطلسي الاوروبية، ثم تمددوا باتجاه الساحل الافريقي في محاولة للوصول لاسواق الهند والصين وعموم الشرق الاقصى، فضلا عن استكشاف امكانية استغلال ثروات افريقيا الغربية. وهم من اعاد تجارة “العبيد” مع باقي اوروبا بعد توقف نسبي. علما أن التخلص من الصعوبات والنزاعات التي تؤدي للحروب، فضلا عن تعدد الضرائب على طول الخطوط التجارية البحرية والبرية القديمة شكل الحافز الرئيسي.
شكل سقوط القسطنطينية الاورثوذكسية على يد العثمانيين سنة ١٤٥٣، وصعود الاسلام من جديد في هذه المنطقة المهمة نقطة تحول تاريخية. وللمفارقة فقد تبعه صعود اسبانيا الكاثوليكية بعد سقوط غرناطة اخر معاقل العرب في الاندلس سنة ١٤٩١. وقد تراجعت طرق الحرير التجارية، حتى ان البعض في روسيا وغيرها من العالم الارثوذكسي اعاد اعتماد نظريات نهاية العالم وحدد ١٤٩٢عام موعدا لذلك.
ولما كان التوجه نحو الشرق هو الهدف الدائم لكل غربي نظرا لغناه الاقتصادي ولسحره العمراني ولتنوع ثقافاته، فضلا عن هاجس القدس الديني، فقد اقنع كريستوف كولومبوس ملك اسبانيا فرديناند بتجهيز حملة بحرية للوصول للهند عن طريق الذهاب غربا، وكان يعتقد أيضا انه سيلاقي الخان المغولي في نهاية الطريق للاتفاق على “احتلال او تحرير القدس”.
انطلق كولومبوس في موعد الابوكاليبس المفترض. وبعد اكتشاف القارة الامريكية بالصدفة، تم نهبها والفتك بشعوبها والتلاعب بحضاراتهم بالسلاح والخداع في الحملات اللاحقة التي سرعان ما تحولت إلى حملات إستيطانية أيضا. ومع تدفق الذهب والفضة من العالم الجديد على اسبانيا، تحولت هذه الاخيرة في عهد شارل الخامس الى قوة عالمية هائلة مكرسة اسبقيتها الأوروبية من البابا، خصوصا بعد اكتشاف طريق الوصول للهند بحرا مع فاسكو داغاما وتراجع الأهمية التجارية للمتوسط والبحر الأحمر.
ادى تدفق الثروات المتأتية من العبودية والاستغلال الرهيبين، ومن افتتاح واحتكار اسواق تجارية جديدة، وبناء مدن ومرافئ وخطوط موصلات جديدة، خصوصا في المحيط الهادئ، الى توفير الدعم للنشاطات العلمية والفنية والعسكرية وبالطبع الاقتصادية، ما جعل اوروبا تقفز قفزات حضارية سريعة. البرتغال واسبانيا في البداية، تبعتها هولندا بعد تحررها من اسبانيا، ثم انكلترة بعد صراع طويل مع اسبانيا، ظاهره ديني( بروتاستانتي/ كاثوليكي، حتى ان الانكليز ناصروا العثمانيين والمسلمين عموما بوجه أوروبا الكاثوليكبة) وجوهره صراع مصالح للسيطرة على الاسواق في اوروبا واسيا وبقية القارات، بعد ان ربطت ببعضها البعض نتيجة الاكتشافات البحرية المذهلة وتطور الأساطيل والمعدات العسكرية الملازمة لمتطلبات هذا التطور. وقد ادى تطور الاصطول والبحرية البريطانية تقنيا وتنظيما الى تحول بريطانيا للقوة الاعظم في اوروبا، خصوصا بعد أن أنهى ويلنغتون اسطورة نابوليون في واترلو.
وقد رافق نشوء الامم والامبراطوريات الاوروبية ؛ الانكليزية والاسبانية والفرنسية والالمانية والايطالية والروسية والنمساوية/ الهنغارية وحتى العثمانية، حروب وصراعات فيما بينها وداخل كل امة، خصوصا مع تحول روسيا الى امبراطورية كبيرة و تمددها شرقا باتجاه اليابان، وجنوبا في الكوكس وسهوب اسيا ووسطها وصولا لحدود افغانستان الإستراتيجية وإيران النفطية والهند جوهرة التاج البريطاني. ما وضعها على تماس ومواجهة مع بريطانيا وحتى مع فرنسا، كما مع السلطنة العثمانية في القرم والبحر الاسود ومع اليابان ايضا.
ترافق الصعود الاوروبي في البداية مع صعود الامبراطوية العثمانية وانتعاش معظم اراضي السلطنة، كما اراضي فارس والهند ووسط اسيا حيث الكنوز المعمارية، كتاج محل وقصر بابور في كابل وصروح سمرقند وروائع سنان المعمارية.
هكذا اصبح الاوروبيون المتنافسون، بعد ان تحولوا امما قوية بعلومهم المكتبسة وقوتهم العسكرية المتعاظمة وثورتهم الصناعية ونظمهم السياسية والاقتصادية والاجتماعية سادة العالم الجدد.
وربما وجب وضع الملاحظات التالية:
أ- اعتبر الاوروبيون الغربيون وبعد سقوط القسطنطينية انهم ورثة روما واثينا، وان امبراطورياتهم الجديدة هي امتداد للقديمة، وهو ما اثبت فرانكوبان عدم دقته عبر سرديته العلمية لنهوض أوروبا الغربية، رغم تمثل نخبهم بالمظاهر الرومانية وتباهيهم بالفلسفة اليونانية التي حدثها إبن رشد، حتى أن الولايات المتحدة الاميركية اقامت مبنى الكابيتول على الطريقة الرومانية وأطلقت إسم أبولو على مركباتها المرسلة الى القمر.
ب- رافق انتقال دول اروربا الغربية من طرف العالم الى قلبه، بعد حملتي كولومبوس وداغاما
ونشوء اكبر عمليات تبادل تجارية في التاريخ، نمو اقتصادي وعمراني في الغرب والشرق معا. تجلى في فنون الرسم والنحت وبناء الكاتدرائيات والجوامع والقصور والصروح العلمية والطرقات التجارية. الا ان الشرق بما فيه الصين والهند والفرس وحتى العثمانيين، لم يستطع مجاراة القفزة الاوروبية الهائلة التي تجلت في العلوم والاختراعات الصناعية، خصوصا الصناعات العسكرية والبحرية، التي جند لها اهم علماء الرياضيات والفيزياء كايلر ونيوتن وبرينال.
وقد توافق بناء الاساطيل القوية مع طبيعة الغربيين العدوانية والمغامرة، ما ادى في النهاية لسيادة غربية شبه كاملة في القرن التاسع عشر وصولا للقرن العشرين وحروبه العالمية المدمرة، واحتلال او انتداب او استتباع اواستعمار واستيطان والحاق جزءا كبيرا من العالم الشرقي بعد انهيار الدولة العثمانية. ومع تحول الولايات المتحدة الاميركية القوة الغربية الاولى على حساب بريطانيا وفرنسا والمانيا، وانتقال صراع الامبراطوريات الى روسيا السوفياتية والغرب الاميركي، دخل العالم في حرب باردة انتهت بانهيار وتفكك الاتحاد السوفياتي.
تجدر الاشارة الى ان الطبيعة العدوانية الغربية تفسر الى حد كبير العنف المطلق الذي استعمل خلال الحروب والاكتشافات والاحتلالات والإستيطان، بما فيها الحروب العالمية.
وبهذا المعنى فإن ظاهرة هتلر تعبر عن هذه الطبيعة حين تختلط المصالح الاقتصادية الباردة بالعنصرية العرقية الحامية.
فهتلر المقتنع بواقع الجغرافيا الالمانية القاصرة عن التحكم بالاطلسي واستطرادا بالمتوسط، رأى أن عليه ان يتطلع شرقا لينحت بالدم طريق المانيا الحريري الخاص، خصوصا أن شرق ألمانيا يتألف من دول ومناطق تحتضن مخازن الحبوب الرئيسية في العالم فضلا عن معادن وابار نفط مهمة . لذا فإن الهجوم شرقا على اوكرانيا وجنوب الاتحاد السوفياتي التي يربطه اتفاق عدم اعتداء معها، شكل بنظر هتلر وبعض مستشاريه الحل الغذائي الضروري ضمن استراتيجية الحل الإقتصادي والسياسي للعنة الجغرافيا، فضلا عن التخلص من البلاشفة والشيوعيين.
وحين اكتشف هتلر أن حسابات الحقول لم تطاول حسابات البيادر، تشحمت ماكينة الابادة النازية غضبا فاتكة بالملايين من الروس والغجر واليهود وغيرهم من الشعوب، بعد أن استعبد بعضهم في تذخيم آلته الحربية وخططه الأجرامية. إلا أن الإجرام لم يقتصر على ما فعله هتلر، فلم يقصر ستالين اجراما في محاولته لردم الهوة الحداثية مع الغرب وارساء دكتاتورية مرعبة لحماية رأسمالية الدولة والحزب. وهذا ما لم يتخيله ماركس وانجلس وحتى لينين الذي رفع من شأن ستالين داخل الحزب. كما لم يقصر الاخرون في الانتقام من الشعبين الالماني والياباني، ولنا في قصف برلين الوحشي وغيرها من المدن الألمانية على يد الانكليز، وابادة اهالي ناكازاكي وهيروشيما على يد النووي الاميركي ماك ارثر ابلغ مثال، دون ان ننسى فظائع الفرنسيين في الجزائر وجرائم بقية الاوروبيين في افريقيا.
وفي الحقيقة فإن هتلر اسر لبعض جنرالاته بانه يحلم بالقرم كريفييرا للالمان، معلنا ان الحلم الاميركي يجب أن يصبح المانيا واروربيا، وسيحقق ذلك الحلم الشباب الالمان المتفوقون عرقيا على الروس والأسيويين عبر التوغل في اوراسيا والكوكس ووسط اسيا وصولا للهند وإيران، كما عبر استكمال رومل زحفه في الشمال الافريقي باتجاه مصر والمشرق العربي لملاقاة الزاحفين شرقا، في محاكاة ألمانية لما فعل الأوروبيون الغربيون وخصوصا الإنكليز في القارة الاميركية .
ورغم الاستعلاء العنصري الاري، فقد وجد هتلر الوقت والمصلحة الاكيدة لمداهنة العرب والفرس والمسلمين عموما، لايثارتهم بوجه بريطانيا التي خدعتهم، خصوصا في الجزيرة العربية والعراق وفلسطين وحتى في ايران. وعندما اقتضت المصلحة البريطانية مسايرة العرب بايقاف موجات الهجرة اليهودية، ارسل هتلر أدولف ايخمان الى فلسطين للتعاون مع زعماء اليهود ضد البريطانيين واعدا شتيرن بارسال يهود المانيا الى فلسطين.
(في إيطاليا أشار أنطونيو غرامشي، والذي قضى سنوات طويلة في سجون الفاشية، إلى ظاهرة التوحش، حين دعا المناضلين الطليان إلى الصبر وعدم والإحباط بقوله:
“العالم القديم يتغير والعالم الجديد يتأخر في البزوع وفي هذه الأثناء تسرح الوحوش الضارية”. وهو ما فعلته هذه الوحوش لاحقا حين تابعت فتكها بعشرات الملايين في الحرب قبل أن يتغير العالم وتدخل أوروبا في مرحلة جديدة من الهدوء والتصالح مع الذات وبداية سلسلسة من التغييرات ستؤدي إلى أوروبا غربية متواصلة ومتحاورة بين مكوناتها وصولا لإنشاء الإتحاد الأوروبي، ومن ثم فتح بعض فئاتها ومنظمانها الأكثر انفتاحا والأكثر تحررا قنوات التواصل مع الآخر المختلف على قاعدة الإحترام المتبادل وتوسيع المساحات والمصالح المشتركة، ومع ذلك فقد أعادت حرب البلقان في يوغوسلافيا السابقة في تسعينيات القرن الماضي تظهير هذا التوحش حيث ارتكبت جرائم تطهير وإبادة كان الجميع قد ظن بأن أوروبا قد خلت من هذه الممارسات. وتجدر الإشارة إلى أن الثائرين المنتصرين في إيطاليا لم يروا بد من شنق أحد هؤلاء الوحوش موسوليني وعشيقته وبعض قادة الفاشية في ميلانو سنة 1945في مشهد لم يخلو من الوحشية أيضا ويستعيد درامية الإعدام والسحل في روما القديمة
ب- رغم تقدم علوم الغرب الانسانية والحقوقية والاجتماعية، الى جانب العلوم الصحيحة، ورغم مفاهيم الحرية وحقوق الانسان، فان الطبيعة العنفية والعسكرية والعدوانية لم تختف تماما، وقد اقام الغربيون منذ البداية القلاع وطوروا الاساطيل والاسلحة على مر العصور كما رأينا.
لكن الشرق لم يخلُ من العنف والاجرام والحروب القاسية، الا ان العنف، وخصوصا في العصر العربي والاسلامي، كان يتوقف عمليا بمجرد استتباب السيطرة في البلد المحتل. اما الصراعات والخلافات الداخلية فكانت بمعظمها تسوى بالدسائس والاغتيالات.
وقد مارس الغربيون ابشع انواع الاستغلال والعبودية والنهب في مراكمة الثروات، خصوصا في افريقيا واميركا، ما ادى لثورات الاستقلال والتحرر، والتي لجأ معظم قادتها للتأميم للخلاص من الشركات الاحتكارية الاجنبية، خصوصا الشركات البريطانية. حتى ان النظرة الأوروبية الى الشرق الساحر والمنافس والذي لطالما شكل جاذبية اقتصادية وتجارية وثقافية وتنافسية، تحولت لاحقا مع ازدياد الهوة العلمية والحضارية الى نظرة استعلائية وعنصرية.
ويسجل لليابان، الجزيرة الشبه منسية قديما في المحيط الهادئ، أنها استطاعت استيعاب واحتواء هذه التحولات الحضارية، حين فشل الاخرون اصحاب السوابق الحضارية التاريخية، ما ساعدها للتحول لقوة احتلال امبريالية، جبارة ومتغطرسة في المحيط الهادئ والشرق الاقصى.
ومع ذلك فقد اقامت بريطانيا وفرنسا الحليفتين اللدودتين في الشرق نوعا من التحديث السياسي والاقتصادي والاجتماعي ليلائم مصالحهما ، كما ساهم الاوروبيون الغربيون عموما بكشف كنوز الشرق التاريخية، خصوصا في مصر والعراق وعموم الشرق الأوسط، حتى أن نابوليون أصطحب معه في حملته على مصر علماء أكثر ما اصطحب من الجنرلات .
الا ان الخداع والرشوة والوعود الكاذبة وسيطرة الشركات المستحدثة شكل السمة الرئيسية للتعاطي الغربي، البريطاني خصوصا، مع قادة وزعماء الشرق في الهند وفارس والبلاد العربية ( the British elevated hypocrisy to the level of diplomacy)..
وشكلت هذه السياسة ستارا لخطوط سايكس وبيكو التقسيمية على خريطة منطقة الشرق الاوسط، والتي ثبتها لاحقا لقاء كليمنصو وليولد جورج في لندن بعد نهاية الحرب الاولى.
وقد كانت للامبريالية البريطانية حصة الأسد حيث احتوت ايران وامارات الخليج، واحتلت عمليا العراق بعد ضم الموصل. كما احتلت مصر وفلسطين، خصوصا حيفا ويافا، لحماية خطوط قناة السويس الاستراتيجية ولمص دم المنطقة الاسود عبر شبكة الانابيب التي تضخ النفط من مصفاة عبادان لمرفأ حيفا. ولتسهيل تتفيذ وعد بلفور وتوجيه الهجرة اليهودية من المانيا الى فلسطين بدل توجهها الى بريطانيا. وحصلت فرنسا على انتداب سوريا ولبنان وبعض الامتيازات النفطية في اكثر من مكان، فضلا عن ما اخذته في الشمال والغرب الافريقي.
الجنرال غورو قال وهو يدوس على قبر صلاح الدين في دمشق بعد معركة ميسلون Saladin voici on est là’ ” ربما في انتقام متأخر لهزيمة الصليبيين في المنطقة.
ت- لم يكن التسامح الديني سائدا في اوروبا، وهو ما يعاكس ما كان سائدا بالاجمال في الحضارات الشرقية. ورغم حمل الغرب للراية الدينية المسيحية في الشرق، الا ان الاقتصاد شكل المحرك الفعلي للسيطرة الغربية، خصوصا بعد اكتشاف الذهب الاسود واهميته في الحضارة الحديثة القائمة على انتاج الطاقة. والنفط سيضخ، عبر شبكة من الانابيب تخترق اسيا، حياة جديدة في شرايين طرق الحرير، وسيؤدي لسيادة البحرية البريطانية بعد اعتماد اساطيلها عليه بدل الفخم، كما سيساهم في انتصار الحلفاء على دول المحور في الحرب العالمية الاولى.
وقد صرخ سناتور فرنسي بعد الانتصار”النفط هو دم الارض وهو دم النصر ايضا”.
وفي فلسطين التي لطالما شكلت هاجسا تاريخيا للغرب المسيحي، اقيمت دولة استيطانية عنصرية لليهود على اراضي المسلمين والمسيحيين، ما جعل ادعاء حماية الأخيرين يشكل نفاقا صارخا. وستتأثر سلبا تبعا لذلك حركة النهضة العربية التحديثية النشيطة والمتأثرة بالأفكار والعلوم ومكونات الحضارة الأوروبية عموما، تحت ضغط متطلبات تصاعد المواجهة مع الكيان الصهيوني ونكبة ١٩٤٨التي ستحمل الى السلطة في مصر أولا ولاحقا في سوريا والعراق والسودان وليبا والجزائر وتونس نخبا عسكرية ستغلّب الأمن وعسكرة المجتمع على الدمقرطة والتنمية . وسيحكم دول الخليج والأردن والمغرب ملوك وأمراء وسلاطين غير دستوريين بمعظمهم، وسينعم لبنان بحد معقول من الديمقراطية والحداثة بسسب من تنوعه الطائفي وتشكيله جسرا بين الغرب والمشرق،وللمفارقة رغم إشكالية نظامه الطائفي ولعنة موقعه بين فلسطين وسوريا.
د: لقد سارت عجلة التاريخ ببناه السياسية والفكرية والاجتماعية، حربا وسلما، على المحرك الاقتصادي وتبادل البضائع من كل الانواع بين الشرق والغرب، وهو ما خضع لقوانين العرض والطلب منذ البداية، خصوصا مع استكمال طريق الحرير. وقد ادت الاكتشافات المذهلة وربط القارات بالطرقات البحرية والبرية الى عولمة كاملة، حيث ان ما كان يحدث في الصين يؤثر على الاسعار في روما والعكس صحيح. كما ان تدفق الذهب من العالم الجديد غير حركة الاسعار وطبيعة الانتاج والتوزيع في جميع الأسواق، وهو ما درسه ادم سميث واستفاض فيه كارل ماركس عبر”الرأسمال”بعد نشؤ الرأسمالية الصناعية وبداية عصر الثورات بدءا من الثورة الفرنسية.
وقد شكلت المعرفة منذ البداية، اكتسابا وابتداعا، انتشارا او احتكارا، عنصرا اساسيا في تطوير ادوات انتاج المواد الزراعية والصناعية وطرق ايصالها وتوزيعها، وابتكار عناصر وادوات القوة اللازمة لحمايتها،كما حرص الحكام وألاباطرة في الشرق والغرب على إحاطة أنفسهم بالعلماء والمفكرين، حتى أن ابن خلدون نفسه انضم مرغما إلى خيمة تيمورلنك عند حصار دمشق قبل أن يعود ويختفي في أزقتها بعد ان يخدع تيمورلنك أهلها ويفتك بها وبهم. ويعادل اكتشاف غوتنبرغ للمطبعة، التي سهلت نشر الكتب والمراسلات والمعرفة عموما والتي حلت محل صناعة النسخ التي اتقنها العرب، عملية اكتشاف الانترنت والفضاء السبراني، وهو ما طورته الحروب والأبحاث العسكرية منذ الحرب العامية الثانية.
وقد نذهل لمعرفة حجم الضبط والتنظيم الذي ساد في الصين وروما قبل ألفيتين، على سبيل المثال لا الحصر، سواء للأشخاص دخولا وخروجا وولادة، سواء للبضائع إنتاجا توضيبا وتسجيلا وشحنا. وقد نذهل أيضا لمعرفة كيف بنى الفرس الطرقات والأسواق والمعارض التجارية القديمة وكيف أبتكروا أساليب حمايتها. وقد نذهل حين نعرف حجم واهمية ودورمكتبات بغداد والاسكندرية ومرصد سمرقند، كما قد نذهل للتقدم الذي ساد الهند والشرق الاسلامي وبلاد الاندلس في مجال الري والصرف الصحي وادارة المياه عموما، علما أن الهند حاليا وللمفارقة تنتج حواسيب اكثر من الكراسي الصحية(flashing toilet) التي يفتقر لها معظم الهنود الفقراء.
ثامنا- صراع الجبارين.
شكل تأميم قناة السويس سنة ١٩٥٦من قبل عبد الناصر الصفعة الاهم لبريطانيا بعد تراجع مصالحها في الهند وايران والعراق، ما جعلها تقوم بعمل عدواني يائس مدعومة من فرنسا واسرائيل( وللمصادفة توجهت الدبابات الروسية في نفس السنة الى بوداست لقمع الانتفاضة الهنغارية). وقد ادى الصمود المصري والإلتفاف العربي وانسحاب المعتدين تحت ضغط الولايات المتحدة الى:
- تسريع انهيار الامبراطورية البريطانية المترنحة بعد عجز مالي كبير واستكمال وراثتها من قبل الولايات المتحدة الاميركية، وانتقال الصراع العالمي الى الجبارين السوفياتي والاميركي.
ب: صعود فكرة العروبة وانتقالها من الشريف حسين الى عبد الناصر، وهو ما سيساعد في تحرير تونس والجزائر وفي تغييرات وانقلابات في سوريا والعراق وليبيا واليمن وبلاد عربية أخرى، بعضها مسهل من السي اي أ.
ذلك أن فلسطين شكلت قضية العرب الاولى لانهم اعتبروا اسرائيل بمثابة صليبيي القرن العشرين، علما أن الرد على هزيمة ١٩٦٧ تحول الى التفاف شعبي عربي حول الثورة الفلسطينية (التي شكلت جاذبا ثوريا عاميا وانتي أميركيا) مترافق مع تحول سياسي فكري من القومية نحوالاحزاب اليسارية والماركسية وإن بنكهة عربية، مع اعادة ظهور للحركات الاسلامية بتشجيع سلطوي عربي وغربي احيانا، بعد ان كان قد اضعفها صعود عبد الناصر والمد العربي القومي عموما.
ت: نظريا، يجب ان يكون ميدان الحرب الباردة بين الغرب والاتحاد السوفياتي حاميا في برلين المشطورة نصفين بجدار فعلي وفي باقي اوروبا المشطورة باحلاف عسكرية وستائر ايديولوجية. إلا ان حماوتها ذهبت كالعادة شرقا، الى طريق الحرير القديم في وسط اسيا والى شرقها الاقصى ايضا (الذي شهد الحرب الكورية وهزيمة اميركا في فيتنام على أنغام التنافس الصيني الروسي ايضا)، كما الى الشرق الاوسط الذي ازدادت اهميته مع ظهور المخزون الهائل للنفط والغاز ودوره في تزييت عجلة الحياة على الكوكب وحتى خارجه مع انتقال المبارزة الى ميدان الصواريخ الباليستية وعالم الفضاء الأوسع عند انطلاق مركبة سبوتنيك سنة 1957.
ح: مع ان شعار اميركا هو حماية الديقراطية والعالم الحر من الشمولية والتوتاليتارية التي مثلها الاتحاد السوفياتي، الا انها تصرفت بطريقة براغماتية حسب مصالحها، ودعمت بالاجمال الانظمة العسكرية والديكتاتورية المقنعة والمباشرة. فساهمت بقلب الإصلاحي مصدق في ايران النفطية ودعمت السافاك واجرءات الشاه القمعية، كما دعمت الإنقلابات العسكرية في أندونيسيا وتركيا وباكستان. علما انها ساهمت في إنجاح انقلابات عسكرية “بعضها ثوري!” محولة بار السان جورج في بيروت الى وكرمخابرات السي اي أ في الشرق الاوسط.
عملت اميركا أيضا على اضعاف حركة عدم الانحياز التي ساهمت بالقضاء على الإستعمار ، ودعمت الانظمة الشبه اوتوقراطية والمنظمات الاسلامية، حتى انها قادت جانبا من الحرب “المقدسة” في افغانستان ضد السوفيات “الكفرة” قبل ان تكتوي بنار القداسة في “غزوة” الابراج الأرهابية.
تابعت اميركا سياسة الاحتضان الغربي لاسرائيل بشكل اقوى، وشكل دعمها عاملا اساسيا في هزيمة العرب سنة ٦٧ وفي استيعاب نجاحات حرب ٧٣ العسكرية وقلب بعض نتائجها عسكريا وسياسيا، كما في هندسة السياسات والحروب الإسرائيلية على منظمة التحرير الفلسطينية وفي تأجيج الحروب الاهلية في لبنان وفي اكثر من مكان.
وشكل النفط هاجسا رئيسيا للغرب، خصوصا ان التأميم وتشكيل اوبك ساهما الى حد كبير في تخفيف الهيمنة الامبريالية عليه، ما ادى الى تحديث ونهضة عمرانية في البلاد المنتجة، رافقه فساد وهدر ومحسوبيات في غياب الديمقراطية والشفافية والمحاسبة. وامتص شراء الأسلحة والتكنولوجيا النووية ما تبقى من الاموال كما حصل عند الجارين اللدودين ايران والعراق. ومع ذلك فالعرب المنتجون بما فيهم السعودية، استعملوا النفط احيانا، سلاحا لتخفيف الضغط في الحروب مع اسرائيل، ما دفع الرئيس نيكسون لأخد اجراءات اقتصادية غير مألوفة، الى جانب اطلاقه ابحاث تنويع مصادر الطاقة، حتى لا يقف الاميركيون بالطوابير امام محطات البنزين، كما حصل في اوروبا واليابان وكثير من الدول.
ويقول فرنكوبان:
“في القرون الوسطى بادل الاوروبيون المتخلفون العبيد بالمنتوجات العربية والاسلامية وغيرها من المنتوجات والمواد الشر قية، بينما في القرن العشرين بادل المسلمون المتخلفون الذهب الاسود بالمنتوجات الاوروبية”.
مارس الجباران سياسة الدعم الاقتصادي والاحتواء لحكام دول طرق الحرير والشرق الاوسط وصولا لإفريقيا وأميركا الجنوبية، حتى ان بعض الحكام لعب على الحبلين على سبيل المصلحة او تفاديا للأذى. وقد شكل الثمن الاقتصادي الذي دفعه السوفيات بدعمهم للانظمة الانتي اميركية كما بالمنافسة في حرب النجوم الذي أطلقه ريغان، سببا رئيسيا في انهيار وتفكك الاتحاد السوفياتي الذي اطلق مساره غورباتشوف بالبروستريكا. وكان له نتائج جيوبوليتيكية دراماتيكية في اسيا واوروبا، حيث تشكلت دول جديدة وانهار حلف وارسو وتوسع الاتحاد الاوروبي.
كما اطلق نشوء الدولة الاسلامية في ايران دينامية جديدة ضخت دماء في شرايين الاحزاب الاسلامية السنية والشيعية، قابلها تشدد وهابي في السعودية. وفي النهاية فانها ايقظت الفتن عبر استحضار الانقسامات المذهبية القديمة، خصوصا حين بدأت بتصدير نموذجها الايديولوجي ومد مخالبها الى الدول العربية ، ما سيؤدي لحروب وصراعات وفتن كثيرة، ستحول هذه البلاد الى مختبر عسكري وجيوسياسي اقليمي ودولي. فحرب العراق- ايران المترافقة مع الحرب في افغانستان، ثم كارثة احتلال الكويت من قبل دكتاتور مهجوس بخليط من البارانويا والميغالامونيا، ستنقل المنطقة الى مرحلة أخرى بعد حرب تحرير الكويت التي اجيزت دوليا، حيث ستتعزز رغبة الولايات المتحدة، خصوصا بعد تفكك الاتحاد السوفياتي، من اجل السيطرة على طرق الحرير القديمة واحزمتها الاقتصادية.
د- تداعيات غزوة القاعدة للولايات المتحدة في ١١-٩-٢٠٠١
ادى هجوم تنظيم القاعدة على رموز القوة الاقتصادية والعسكرية في الولايات المتحدة الى اطلاق يد الرئيس بوش ومهووسي الادارة، امثال تشيني ورامسفيلد، في استكمال عملية السيطرة على قلب العالم ومفارقه الرئيسية. بدأ باحتلال الولايات المتحدة لأفغانستان التي تحتض بن لادن وقيادة القاعدة، ثم انتقل في ٢٠٠٣ الى قصف وتدمير واحتلال العراق وقتل صدام حسين، بعد ان ادى الحصار المفروض على العراق في اعقاب حرب “تحرير الكويت” الى هلاك ملايين العراقيين. وقد استعمل جورج بوش وصديقه الانكليزي طوني بلير ذريعة كاذبة ابتدعتها س أي إ وسوقها كولن باول، وهي وجود اسلحة غير تقليدية في العراق كحجة للحرب عليه.
ادى احتلال العراق وحل الجيش وحزب البعث وادارات الدولة الى نتائج كارثية داخل العراق وخارجه، حيث دخل العراقيون في حروب اهلية مذهبية واثنية، رافقها ارهاب وتطرف من كل الضفاف. ورافق الحرب على العراق ايضا انتعاش ايراني وتواطؤ ضمني ايراني/ اميركي(وحتى في عز ازمة الرهائن الاميركيين والحرب العراقية الإيرانية حصل تعاون اسرائيلي ايراني في بداية الحرب، تبعته فضيحة ايران غيت، وهو ما ادخل بارانويا الحصار والمؤامرة الى عقل الدكتاتور العراقي وساهم لاحقا بتشجيع ضمني أميركي في كارثة إحتلال الكويت).
ادت الحرب على العراق أيضا الى احباط عربي واسع وارتفاع في منسوب المظلومية السنية والعربية، خصوصا أنه سبقها استغلال شارون للجنون الاميركي للانقضاض على الانتفاضة الفلسطينية الثانية وحصار ابو عمار ورفاقه في المقاطعة في رام الله، وتدبير اغتياله في نهاية المطاف ، بالتلازم مع بناء جدار الفصل العنصري في فلسطين. وطبيعي ان يدير شارون الاذن الطرشاء لمبادرة الارض مقابل السلام التي اطلقها العرب من بيروت سنة ٢٠٠٢ في مؤتمر قمة تصادف انعقاده مع حصاره لابي عمار، والذي أكمله جماعة الوصاية السورية بمنعه من مخاطبة المؤتمر بحجج واهية.
هكذا دخلت المنطقة التاريخية ذات الفوالق الجيوسياسية المتعددة، والتي تنام على صفيح ساخن ومخزون استراتيجي هائل من الغاز والنفط مرحلة من التحولات العميقة في القرن الواحد والعشرين. وستأخذ هذه التحولات اشكال انتفاضات سلمية غير مسبوقة من اجل الحرية والخبز والديمقراطية في العالم العربي وحتى في إيران المزهوة بالخسائرالعربية والمزايدة بشعاراتهم ضد إسرائيل، بعد ان شهدت اوروبا الشرقية والبلقان وجمهوريات الإتحاد السوفيات في السهوب والكوكس انتفاضات وتغييرات وحروب بدأت بتحطيم جدار برلين.
علما ان المصالح الاقليمية والدولية ستساهم بإرباك هذه الإنتفاضات، بدعم الاخوان المسلمين أولا ثم دعم العسكرة لاحقا كما حصل في مصر، وفي تحويل بعضها الى حروب اهلية كما يحصل في سوريا وليبيا واليمن، خصوصا في مناخ من الصراعات المذهبية و النزاعات العشائرية والقبلية الما قبل حداثية، والتي فشلت الانظمة الدكتاتورية والاستبدادية بايجاد الحلول لها.
الخلاصة: طريق الحرير ينهض من جديد
يقول الان بريفيت في كتاب صدر له في١٩٧٢:
“حين تنهض الصين يهتز العالم”
قلة ممن قرؤوا االكتاب انذاك، صدقوا ان صين ماوتسي تونغ ستنهض اقتصاديا وتهز العالم.
وانها ستستعيد الاحلام القديمة، فتصبح بضائعها موجودة في جميع انحاء الكرة الارضية، وينتشر سائحوها في شوارع لندن وباريس ونيويورك لشراء الماركات الفخمة(التي وربما لسخرية القدر، فقد صنع بعضها في الصين، او في احدى دول نمور اسيا، التي اضيف لها مؤخرا نمرا فيتناميا) بعد ان تعودت هذه الشوارع على الانتشار السياحي الياباني والكوري اضافة للاميركي والخليجي، علما انه في كل من هذه المدن تكون في القرن الماضي حي صيني خاص يسمى تشاينا تاون.
فأن تفكر الصين ببعث طريق الحرير الذي شكل رئة التبادل التجاري بين الشرق والغرب في التاريخ، كما اعلن الرئيس تشي في ٢٠١٣ من المانيا، فهذا يعني انها بلغت مرحلة تنافسية تجعلها تبادر وتساهم في اعادة وصل البلدان والقارات بطرقات وسكك حديد وانابيب ومرافئ، لتسهيل حصولها على النفط والغاز والمعادن والمواد الضرورية لصناعتها المزدهرة وارسال فائضها الضخم للاسواق المتعطشة للمواد الاستهلاكية المنافسة، بما فيها الحواسيب والهواتف الذكية. واذ ساعدت الصين بلدانا كثيرة واستثمرت في بناء الطرقات والبنى التحتية لتسهيل مرور البضائع والمواد في الاتجاهين، فإنها تفكر حتى في بناء نفق من ٢٠0 ميل(أو جسر) في مضيق بيرنغ حتى يذهب القطار من الصين الى كندا عبر روسيا والاسكا وصولا لقلب الولايات المتحدة.
وان تفكر الولايات المتحدة في طرق الحرير، في اسيا الوسطى والخليج وفي دول الاتحاد السوفياتي السابق، فلأنها تدرك اهمية هذه الدول التي تختزن الغاز والنفط والمعادن المستعملة في صناعات التكنولوجيا الناعمة، كما تختزن اليورانيوم وغيره من لوازم الطاقة النووية، وبعضها يختزن مناجم ذهب واسعة تضاهي مناجم افريقيا الجنوبية، فضلا عن اهمية هذه الطرقات في التجارة العالمية في المنطقة التي يعيش فيها المليارات والتي تنمو صناعاتها واقتصاداتها بسرعة مذهلة. ولا يجب أن ننسى اهمية هذه الطرق بايصال الاسلحة والذخيرة الى الجبهات التي ادارتها وما تزال تديرها الولايات المتحدة وحلفاؤها في المنطقة.
وهذا ما استخلصه الرئيس اوباما في ٢٠١٢
حين قال: نحن نمر في مرحلة انتقالية، فقلب العالم يتغير ويتجه من اوروبا نحو “اسيا- باسيفيك”، وعلينا ان نتغير معه لنبقى في الطليعة. وهذا ما اكدته وزارة الدفاع البريطانية بالقول:ان قلب العالم يتجه من جديد نحو الشرق بعد ان يمر بمرحلة من الغليان والتوتر والازمات وتصاعد في حدة الايديولوجيا، فضلا عن التغيرات المناخية وأخطارها الجمة على البيئة والإنسان.
وان تدخل روسيا في التنافس على الحصص بعد ان نهضت “عسكريا” مع القيصر بوتين، فهذا بديهي ايضا، علما انها متخلفة اقتصاديا وضعيفة ماليا، لولا مبيعات الاسلحة والصناعات المرتبطة بالفضاء، فضلا غنى مواردها الطبيعية وتنوعها.
فروسيا سلخت القرم عن اوكرانيا وتتلاعب بشرقها. واوكرانيا مهمة استراتيجيا، لانها تحتضن مع روسيا البيضاء وبلاد الكوكس مخزن حبوب هائل ومناجم فحم ضخمة، وتشكل طريقا اساسيا لوصول الغاز وغيره من المواد الى المانيا وباقي اوروبا. كما ان تدخل روسيا العسكري في سوريا وتعاونها المزدوج مع ايران واسرائيل شكل اعلانا صارخا لعودتها الى نادي الأقطاب. علما انها انضمت لمنظمة شانغهاي للتعاون والتي تتوسع لتصبح اتحادا يشبه او اهم من الاتحاد الاوروبي .حتى ان تركيا نفسها تعمل للانضمام الى المنظمة المتالقة بعد يأسها من الاتحاد الاوروبي، علما أنها تتجه للتعاون مع روسيا في مجالات كثيرة بما فيها الصناعة العسكرية، دون أن تقطع مع أميركا والحلف الأطلسي. فالعالم يتغير وإن كانت العلاقات بين الدول والأحلاف الجديدة لم تتبلوربعد، رغم انهيار حلف وارسو واهتزاز واقع الحلف الأطلسي ونشوء تجمعات ومنتديات اقتصادية كثيرة وظهور حقائق جيوسياسية جديدة في العالم. ويرسم منتدى دافوس بعض مؤشرات الحراكات الإقتصادية الجديدة.
وقد يفيد الاشارة الى بعض سمات المرحلة الانتقالية التي تجري فيها هذه التحولات الكبرى.
أ- تترافق مرحلة العولمة الجديدة وثورة الاتصالات وعالمها الافتراضي وتداعياتها على الاقتصاد والامن والاجتماع، مع ازدياد في الشعور القومي الشعبوي. ويظهر ذلك في نشوء و نمو الاحزاب والمنظمات اليمينية والعنصرية في الغرب الاوروبي والاميركي وفي العالم عموما(وقد وصل شعبويا كترامب للمنصب الاهم في العالم بعد ان شغله رئيس اسود، وانتخب يميني متطرف في البرازيل بعد ماسح الاحذية اليساري ويميني قومي في الهند بعد ورثة افكار المهاتما غاندي وانتخب في هنغاريا أوربان الذي يدعو لأوروبا الصافية مسيحيا) ويترافق ذلك مع تراجع في وزن الاتحاد الاوروبي الذي شكل املا كبيرا لشعوب اوروبا ولغيرهم من الشعوب للخلاص من الحروب ولتشكيل قوة اقتصادية بعد انهيار الامبراطوريات الاوروبية. وتشكل بركسيت تحديا كبيرا للقارة العجوز التي تترنح تحت ضربات الحلفاء والخصوم في آن، خصوصا أن اليمين المتطرف والشعبوي والمشكك في جدوى إلإتحاد الأوروبي وصل للسلطة في هنغاريا وإيطاليا وتوسع في فرنسا والنمسا وحتى في ألمانيا. ومع ذلك فإن اوروبا ما تزال تشكل وجهة اللجوء المفضلة للمقهورين والحالمين من افريقيا واسيا، حتى أن رئيس بلدية لندن صديق خان هومسلم من أصول باكستانية ما يؤشر لحجم التسامح المكتسب في أوروبا. وهذا للأسف يزيد “في مناخ الازمات الاقتصادية” من انتعاش العنصرية والانعزالية، خصوصا مع تصاعد الارهاب وتنامي موجات الاسلإمافوبيا ومعاداة الهجرة.
وفي الولايات المتحدة، التي قامت على الهجرة اصلا، يعمل الرئيس ترامب على بناء جدار بوجه المهاجرين الملونين الفقراء، ويأخذ اجراءات ضد القادمين من بعض البلدان المسلمة، تحت ذريعة الحرب على الارهاب، متغاضيا او متساهلا مع الارهاب العنصري الابيض وهو الاوسع والاخطر داخل البلاد. ورغم التباسات المسيحية الصهيونية في الولايات المتحدة والدعم الغربي عموما لاسرائيل فإن الإنتي سامية تزداد أيضا).
وطبيعي ان يزداد الشعور القومي والشعبوي والطائفي في الشرق، الغير ديمقراطي بمعظمه، والذي يعاني من نقص في الحريات وفي قضايا الاقليات وحقوق الانسان عموما، وهو ما نشهد بعضامنه حتى في دول ديمقراطية وشبه ديمقراطية كالهند وباكستان وبنغلادش . وشهدت سيرلنكا مؤخرا إرهابا داعشيا فظيعا ضد الأقلية المسيحية وسبقه موجات اعتداءات بوذية للأقلتين المسلمة والمسيحية، وهي بالكاد خرجت من حرب أهلية مدمرة، بينما قام الرئيس الفيلبيني دوارتي بموجات قتل واسعة تحت ستار محاربة المخدرات. وشهدنا تطهيرا عرقيا في كمبوديا ومؤخرا في ميانمار، وتطهيرا مذهبيا في بعض مناطق سوريا وتدمير مدن وقرى في تشيشنيا الروسية. وحتى في دولة عريقة ديمقراطيا كاليابان، فقد كشفت محاكمة كارلوس غصن عيوبا كبيرة في النظام القضائي الياباني وهذا يؤشر على ضعف في دمقرطة المجتمع الياباني، كما كشفت محاولة الانقلاب في تركيا واجرءات اردوغان الشعبوية والقمعية في اعقابه حدود الديمقراطية التركية.
اما في الصين، فيترافق التحرر الاقتصادي وحركة العمران والتحديث الهائلة مع مزيد من القمع السياسي، خصوصا لبعض الاقليات المسلمة كالايغور والكازاك، حتى ان هناك عودة لكمبات التجميع واساليب الثورة الثقافية الماوية وان بنسخة محدثة، حيث يعزل الملايين عن اهاليهم، ضمن عناوين محاربة “ايديولوجيا” الارهاب والتطرف الاسلاميين.
والصين ساهمت اصلا في نشوء هذا التطرف حين ارسلت مقاتلين ايغور لقتال السوفيات في افغانستان، علما ان مناطق الايغور في غرب الصين تشهد انتقالا لشركات صينية وعالمية، لتدني أكلاف التشغيل من جهة ولقربها من خطوط المواصلات الحريرية من جهة أخرى.
على كل فقد شكلت العنصرية والعدوانية والمظلومية اسبابا لتصاعد التطرف والارهاب الديني والعرقي بموازاة ارهاب الدول والانظمة، وهو ما نشهد تصاعده في الشرق والغرب وفي كل مكان.
كما تشهد مرحلة التحولات الكبرى مزيدا من اجراءات الحماية الاقتصادية الاميركية المعاكسة للتجارة الحرة، والمفرطة في استعمال سلاح الاقتصاد، وهو ما يظهر في الحرب التجارية مع الصين، وفي توسيع العقوبات الاقتصادية على روسيا وكوريا الشمالية وإيران، وفي الضغوط الإقتصادية على المكسيك وكندا وتركيا وحتى على الحلفاء الأوروبيين، كما تظهر في ابتزاز دول الخليج وفي الضغط المالي على الفلسطينيين ومؤسسات الامم المتحدة التي تشق عصا الطاعة الأميركية.
ب- قد تبدو الدول الممتدة على طول خطوط الحرير القديمة في سهوب اسيا وجنوب روسيا غريبة ومتخلفة بالنسبة للمواطن الغربي، كما أن معظمها تحكمه دكتاتوريات عائلية مقنعة يشبه بعضها عائلة العراب دون كورنيالي، ومع ذلك فهي دول استقرت بعد عدة ثورات وتغييرات جيوسياسية، وتعوم معظمها على بحر من المواد الطبيعية الاساسية التي يقوم عليها الإقتصاد والتكنولوجيا الحديثة، فضلا عن انها تشهد نموا عمرانيا قياسيا وتقيم فيها كبريات الدوروالماركات فروعا لها. وقد نتفاجأ بحجم وفرادة الصروح الفنية والسياحية والرياضية والدينية والتجارية في عواصم وحواضر هذه الدول، وبعضها يضاهي ما بني في دبي وابو ظبي والدوحة وعمان واسطنبول وبيروت. ودول الخليج تتغير وتتحول حتى بنمط الحياة الإجتماعية وبالوظيفة الإقتصادية بما يتجاوز البرميل والأنبوب. فدبي تحولت إلى مدينة إلى مدينة عالمية والكويت تتقدم ديمقراطيا واجتماعيا، وحتى السعودية الأكثر محافظة بدأت تخفف قبضة التشدد الإجتماعي وهي تخطط لبناء مدينة نيوم الإقتصادية على البحر الأحمر ضمن خطة 2030 الإستراتيجية، وهي أول مدينة رأسمالية في العالم تمتد على مساحة 26500 كلم مربع في أراضي السعودية ومصر والأردن، وستقيم جسرالملك سلمان الذي يربط السعودية بمصر، كما ستستثمر في مجالات سياحية وثقافية واعدة، بما يتجاوز دورها الديني كحاضنة لمكة المكرمة والمدينة المنورة. وحتى مصر المأزومة إقتصاديا بنت أعرض جسر في العالم. وقد نتفاجئ بحجم حركة الطيران السياحي والتجاري بين هذه الدول والصين والذي يتجاوز الحركة في أوروبا نفسها.
وافغانستان التي تبدو غريبة لدرجة السوريالية، فهي فائقة الأهمية استراتيجيا، رغم ندرة مواردها الطبيعية الاساسية، علما انها صدرت في الماضي الليمون وازهار التوليب من حدائقها الغناء وبساتينها الوفيرة الى اوروبا، وتصدر حاليا الافيون والخشخاش اللازمين في بعض المعالجات الطبية وتكاد تسبق كولومبيا والمكسيك في تصدير المخدرات، ولطالما كانت هولندا وجهة التصدير المفضلة.
تجدر الاشارة الى ان الهند النووية، والمتقدمة علميا وصناعيا، ولكن الفقيرة والمتأخرة اجتماعيا، تحاول النفاذ بمنتوجاتها المصنعة الى اسواق الدول القريبة عن طرق الحريرالجديدة، كما عبر تجمع البريكس الذي يضم اليها روسيا والصين والبرازيل وافريقيا الجنوبية، والذي يبدو ورغم قوة جميع أعضائه، وكأنه يجمع من كل وادي عصا.
والهند تصدر مع باكستان النووية ايضا وبنغلادش وسريلانكا، ومع الفيلبين واليمن واثيوبيا، ملايين العمال والعاملات الى بلدان الخليج العربي الغنية في مشهد يبدو، في بعض شروطه، وكانه تصدير للرقيق لجهة ضعف الأجر بالقياس لحجم ونوع العمل وظروفه. ويؤشر الإتجار بالبشر المرتبط باللاجئين إلى فظاعة مزدوجة، إذ أنه يظهر حجم اللجوء الناتج عن الحروب والأزمات في من جهة، وضعف الإهتمام الأممي الذي يصل أحيانا إلى حد الإزدراء أمام مأساة إنسانية مرشحة للإرتفاع مع تطورالتكنولوجيا وتضاؤل فرص العمل خصوصا في البلدان الفقيرة، فضلا عن توسع قوس الأزمات والتوترات وصعوبة الحلول السياسية. كما أن الدكتاتور الكوري الشمالي المنفوخ بينما شعبه يجوع يصدر الصبايا الكوريات إلى الصين للترفيه عن البرجوازية الصينية المنفوخة جيوبها، بينما تنافس كوريا الجنوبية بمنتجاتها المصنعة العالية الجودة الصين وأميركا واليابان، وتتابع سنغابور وماليزيا وتايوان وحتى أندونيسيا تقدمها في شرق آسيا.
ج- ما يجري في طهران وبغداد ودمشق والقدس وصنعاء و في كابل هو جزء من الصراع الكبير في قلب العالم القديم وروحه الديني والفكري والتاريخي، ومشهد سرقة متحف بغداد امام اعين الغزاة الاميركيين لا يختلف عن مشهد تدمير داعش للآثار في اور وتدمر والموصل، ومشهد تدمير طالبان لتماثيل بوذا في باميان، كما مشهد تدمير الجوامع والكنائس والآثار التاريخية في القصف الروسي والاميركي والإيراني في العراق وسوريا. وإذا أضفنا سرقة وتدمير التراث في اليمن من قبل الحوثي وراعيه الإيراني وما تقوم به إسرائيل بتشجيع وصمت دولي في القدس وعموم فلسطين، نرى أننا أمام كارثة غير مسبوقة في قلب التراث العالمي.
وبالنظر لما تختزنه منطقة الشرق الاوسط والمنطقة العربية من خيرات وامكانيات وما تعانيه شعوبها، فإن الانتفاضات الربيعية ستستمر بشكل او بآخر كما يحصل في الجزائر والسودان، رغم كل الصعوبات والخيبات والحروب والتدخلات التي تقوم بها القوى الاقليمية والدولية.
علما أن اميركا (وبالطبع روسيا) لا يهمها الديمقراطية والحرية وحقوق الانسان، بقدر ما يهمها استقرارا قائما على المصالح الاقتصادية الباردة، من هنا تفضيلها الاجمالي للتعامل مع العسكر والديكتاتوريات المقنعة، خصوصا بعد انتخاب الرئيس ترامب. علما أن احدا لم يعتقد ان الرئيس اوباما كان يفكر في مصير الديمقراطية في سوريا او في مصير مئات الآلاف الذين سيقتلون اويهجرون او يشوهون، حين ابرم الإتفاق الكيميائي مع بوتين والاتفاق النووي مع ايران بالعا جميع خطوطه الحمر، ذلك ان الهاجس كان دائما تأمين مصالح اميركا واسرائيل. وهذا ما يتابعه ترامب الشعبوي، وإن بطريقة استعراضية واستعلائية وفظة وحتى كاريكوتورية، ولكن المضبوطة بالإجمال تحت سقف الاستبلشمنت الأميركي، رغم إضافة دبلوماسية حافة الحرب إلى العقوبات القاسية مع إيران لتطويعها وجلبها للتفاوض بعد أن انتفخت بأحلامها الإمبراطورية وبأنيابها الإقليمية المدججة في العراق وسوريا ولبنان واليمن.
وترامب معجب بالزعماء الشعبويين وبالديكتاتوريين ككيم جونغ ايل وبوتين وشي جينيغ كما بأردوغان وأوربان رغم تنمره عليهم جميعا . والولايات المتحدة الاميركية لا ترغب في تكتلات اقليمية قوية ومستقلة. لذا فمن الطبيعي ان تعرقل اي تكتل عربي سياسي واقتصادي فعلي، وقد عملت على مزيد من اضعاف مؤسسة الجامعة العربية المأزومة اصلا. ويأتي في هذا السياق، ابتزاز واشغال وإرباك حلفائها المفترضين في مجلس التعاون الخليجي وفي مقدمهم المملكة السعودية، بعد اضعاف مصر والحرب على العراق والتعامل الملتبس مع الربيع العربي.
ويمكن أن ننهي بالقول:
موارد هائلة وضعت في حزام واحد ورؤية واحدة للطريق طرحها الرئيس شي والذي يخطط لصين المستقبل. وفي خضم ما يجري من تغييرات وتهديدات وصراعات ثقافية ودينية واثنية، لم يعطها الغرب الوقت الكافي والضروري لفهمها، تقوم الطرق والشبكات في العمود الفقري لاسيا. وكما كانت الامبراطورية البريطانية تسيطر على طول الطريق من اقصى الغرب الى أقصى الشرق بواسطة الاساطيل والجيوش والشركات في القرن التاسع عشر وتابعت الولايات الولايات الأميركية المهمة باساليب شتى، ها هي الصين تخطط للسيطرة على الطرقات التجارية بقفازات ناعمة، ناقلة التحديات مع ألغرب القوي ومع اليابان ومع الآخرين إلى مستويات جديدة، خصوصا أنها دخلت الميدان الفضائي أيضا وتسعى لتحديث وتعزيز جيشها المتخلف نسبيا، علما أن القارة التي أنتجت النهضة العلمية والتصنيع والحداثة وأقامت الإتحاد الأوروبي تترنح تحت تأثير دومينو الصين روسيا وأميركا ما يجعل النظام الدولي الجديد أكثر إثارة وأكثر غموضا.
وبكلمة اخيرة واحدة: ان طرق الحرير تنهض من جديد.