سيأخذ الجدل في شأن من يمتلك الكتلة النيابية الأكبر في العراق وقتا طويلا. لا تبدو ايران مستعدة للاستسلام السريع للغة الأرقام التي تعني بين ما تعنيه ان التحالف بين حيدر العبادي ومقتدى الصدر وآخرين، من بينهم عمّار الحكيم وايّاد علاوي، استطاع تشكيل الكتلة الأكبر من دون اللجوء الى الاكراد.
جاء تشكيل الكتلة الأكبر، الذي ردت عليه ايران سريعا بانّ هناك من يمتلك أيضا كتلة قادرة على لعب دور في اختيار من سيكون رئيس الحكومة الجديدة، بان دفعت التابعين لها من قادة الميليشيات المذهبية الى التصعيد. لم تكتف بجعل احد قادة الميليشيات الى القول “من يضحك طويلا هو من سيضحك أخيرا”، بل عقد السفير الايراني في بغداد لقاء مع زعماء اكراد بغية استمالتهم الى الكتلة الايرانية التي شكلها نوري المالكي وهادي العامري وآخرون من الذين ينسون انّ عودتهم الى بغداد في العام 2003 كانت على دبّابة اميركية.
تحول الاكراد الى بيضة القبان في اللعبة السياسية العراقية، لكن انضمامهم للكتلة الايرانية في مجلس النواب العراقي الجديد، من اجل ترجيح كفّة نوري المالكي او هادي العامري ليس مضمونا. على الرغم من ان لدى الاكراد، اقلّه لدى قسم منهم، حسابا يريدون تصفيته مع حيدر العبادي ودوره في مرحلة ما بعد الاستفتاء على الاستقلال الكردي ومعركة كركوك، الّا انّ ليس في استطاعتهم التجاهل الكامل لما تسعى اليه الإدارة الاميركية. لعبت الادارة عبر مبعوثها الى العراق بريت ماكغورك دورا محوريا في تشكيل جبهة عريضة تقف في وجه المشروع التوسّعي الايراني الذي يعتبر العراق مجرّد ولاية او محافظة تدار من طهران.
هناك ابعد بكثير من التجاذبات العراقية في شأن من تكون الكتلة الأكبر التي ستختار رئيس الوزراء العراقي الجديد. هل يخلف حيد العبادي حيدر العبادي في موقع رئيس الوزراء، ام ستوجد شخصية أخرى قادرة على خلافته من بين أعضاء الكتلة التي تضمّه مع “سائرون”. لا شكّ ان العبادي اظهر انّه قادر على لعب دور إيجابي على الصعيد الداخلي. حاول قبل كلّ شيء اصلاح ما يمكن إصلاحه منذ خلف نوري المالكي في العام 2014 بعد الهزيمة التي لحقت بالجيش العراقي على يد “داعش” في الموصل.
استطاع العبادي لعب دور في هزيمة “داعش” من دون ان يعني ذلك نفي جانب من مسؤوليته في تحقيق الهدف الايراني الذي يشارك فيه النظام السوري. يتمثل هذا الهدف الذي كان وراء ايجاد “داعش” افلاته على العراقيين والسوريين. كذلك، يتمثل هذا الهدف في تدمير المدن الكبيرة في العراق وسوريا كي لا تقوم لها قيامة من منطلق انّها مدن سنّية او مدن مختلطة تشكل حاضنة لثقافة الحياة وللتنوع الثقافي والاجتماعي كما كانت عليه البصرة وبغداد والموصل وحلب وحمص وحماة في الماضي.
ما هو ابعد من التجاذبات الداخلية العراقية خلفية المشهد العراقي. هناك قبل كلّ شيء الوضع الداخلي الايراني الذي يفترض الّا يغيب عن البال. تعاني ايران من ازمة على كلّ المستويات نتيجة فشل نظام يعتقد ان الهرب الى الخارج يغني عن الالتفات الى هموم الايرانيين وطموحاتهم. يختزل الازمة الداخلية الايرانية الفشل في تطوير الاقتصاد منذ العام 1979 تاريخ سقوط الشاه. وعد المسؤولون الايرانيون في مرحلة ما بعد الشاه والاعلان عن قيام “الجمهورية الإسلامية” بالّا تعود ايران معتمدة فقط على دخلها من النفط والغاز. ايران اليوم تحت رحمة النفط والغاز اكثر من ايّ وقت. شكّل العراق في مرحلة معيّنة متنفسا لاقتصادها المنهار. عرفت بعد العام 2003 كيف تحلب العراق الى ان جفّ ضرع البقرة التي اسمها الاقتصاد العراقي.
هناك ازمة اقتصادية واجتماعية في ايران والعراق في الوقت ذاته. يأتي ذلك في وقت لا يمكن الاستخفاف بالمواجهة الايرانية – الاميركية التي تحوّل العراق الى ساحة من ساحاتها. هناك أيضا تململ شعبي في العراق لن يكون في استطاعة أي حكومة برئاسة العبادي او غير العبادي، معالجته بسهولة.
ما يشهده العراق حاليا هو فشل مزدوج للمشروعين الاميركي والإيراني، هذا اذا كان هناك أصلا مشروع أميركي للعراق باستثناء التخلص من نظام صدّام حسين. حسنا، حصل ذلك عبر حرب مشتركة كانت ايران طرفا مباشرا فيها. يدفع الاميركيون حاليا عدم ادراكهم ان المنتصر الاوّل من حرب، استهدفت نظاما عاد بالويلات على العراقيين وعلى المنطقة كلّها، كانت ايران التي لم تستوعب انّ ثمّة حدودا للتذاكي وان العراقيين، بمن في ذلك الشيعة، ليسوا في اكثريتهم مجرّد عبيد لديها.
ليس تحديد من الكتلة الأكبر في مجلس النوّاب العراقي الجديد سوى انعكاس لازمة مركبة في العراق لا تستطيع ايران الخروج منها، نظرا الى انّها جزء لا يتجزّأ من هذه الازمة. كان افضل تعبير عن هذه الازمة الايرانية في العراق تمرّد شخص مثل مقتدى الصدر على طهران. هذا يفسّر كلّ تلك الجهود التي تبذلها من اجل تشكيل كتلتها في البرلمان العراقي ومنع حيدر العبادي من العودة الى موقع رئيس الوزراء. في النهاية، تجرّأ العبادي على القول، تعليقا على العقوبات الاميركية الجديدة على ايران، ان عليه مراعاة مصلحة العراق. كان كلامه واضحا لجهة ان مصلحة العراق والعراقيين تمرّ قبل مصلحة ايران التي اعتقدت ان الحرب الاميركية انتهت بانتصار يسمح لها بان يكون العراق مجرّد جرم يدور في الفلك الايراني.
في انتظار الجواب الواضح الذي لا لبس فيه بشأن الكتلة النيابية الأكبر في العراق، لا مفرّ من طرح أسئلة عدة. من بين هذه الأسئلة هل تستطيع ايران التراجع في العراق والاقتناع ان العراق هو العراق وايران هي ايران؟ الى ايّ مدى ستذهب الإدارة الاميركية في دعم حيدر العبادي وتشكيل كتلة نيابية يمكن ان تعيده رئيسا للوزراء او يمكن ان تأتي بشخص يمتلك حيثية عراقية لا يمكن لإيران القبول بها؟ الاهمّ من ذلك كلّه هل من مستقبل للعراق، بمعنى هل يمكن إعادة تركيب البلد بعد كلّ الذي حصل فيه وما حلّ بمدنه؟
تكمن اهمّية الولايات المتحدة بانّ في استطاعتها ارتكاب كلّ الأخطاء التي يمكن لاي إدارة ارتكابها من دون يتأثر وضعها الداخلي بذلك. هذا عائد الى انّها القوّة الاقتصادية الأكبر في العالم. خسرت اميركا حرب فيتنام. اذلّها الفيتناميون في سبعينات القرن الماضي. اقامت فيتنام في مرحلة لاحقة علاقات طبيعية مع الولايات المتحدة. تريد بكل بساطة الاستفادة من الاستثمارات الاميركية. تخلت فيتنام عن ايّ دور إقليمي. صار اهتمامها محصورا بشعبها واقتصادها.
لماذا لا تتعلّم ايران من تجارب الآخرين ومن ان لا خبز لها في العراق الذين قد يعود يوما دولة طبيعية كما قد لا يعود كذلك بعد كلّ ما تعرّض له في السنوات الستين الماضية… منذ ذلك اليوم المشؤوم الذي قضى فيه مجموعة من الضباط الجهلة على العائلة المالكة!