قبل سنة وبضعة ايّام، في الرابع والعشرين من آب – أغسطس 2017، كتب علي عبدالله صالح الفصل ما قبل الاخير من المواجهة مع الحوثيين (انصار الله) الذين كان وراء ظهورهم بعد العام 1994. تمرد هؤلاء عليه بعدما قوي ساعدهم لاحقا. خاض الرئيس اليمني السابق، الذي اغتيل في الرابع من كانون الاول- ديسمبر 2017 داخل منزله في صنعاء، اربع حروب مع الحوثيين الذين صار اسمهم “انصار الله” بعدما كانوا “الشباب المؤمن”. يرمز ذلك الى تحوّل لدى هذا التنظيم في اتجاه التبعية الكاملة لإيران.
كانت الذكرى الـ35 لقيام “المؤتمر الشعبي العام”، قبل سنة من الآن، الفصل ما قبل الأخير في المواجهة مع طرف يعتبر انّه قادر على إعادة كتابة تاريخ اليمن.
شكّل “المؤتمر” منذ البداية مظلة سياسية التقى تحتها سياسيون من مختلف الاتجاهات. كان هناك الإسلامي، كما كان هناك اليساري. وكان هناك القبلي في طبيعة الحال. كان “المؤتمر” مكانا لممارسة التعددية السياسية في اطار محدّد وشروط معيّنة حددها علي عبدالله صالح وذلك بعد اربع سنوات من توليه الرئاسة صيف العام 1978.
شكل “المؤتمر الشعبي العام” تجربة جديدة ومختلفة وكان في الوقت ذاته تحديا للوضع القائم في دولة الجنوب المستقلة حيث كان سعي الى تثبيت نظام الحزب الواحد اكثر فاكثر، فيما كان تأسيس “المؤتمر الشعبي العام” خطوة نحو بعض الانفتاح السياسي نظرا الى انّ أحزابا واتجاهات عدّة تعايشت تحت في ظلّه. لم يمنع ذلك كثيرين من القول ان “المؤتمر” كان منطلقا لتحقيق مكاسب ومغانم في مجتمع ذي طبيعة قبلية.
انتقل “المؤتمر” الى ان يصبح حزبا سياسيا من نوع مختلف بعد الوحدة اليمنية في ايّار- مايو 1990 وقيام “التجمع اليمني للاصلاح“. شجع علي عبدالله صالح الشيخ عبدالله بن حسين الأحمر على تأسيس “الإصلاح” كحزب إسلامي. كان الرجل الذي حكم اليمن ثلاثة وثلاثين عاما يهوى لعبة تقوم على الوقوف في الوسط والتفرّج على احتدام المنافسة بين “الاصلاح” (الإسلامي) و”الاشتراكي” الذي كان يحكم الجنوب والذي كان حزبا يساريا، اقلّه نظريا.
كان الفصل ما قبل الأخير من المواجهة بين عبدالملك الحوثي وعلي عبدالله صالح في الذكرى الـ35 لقيام “المؤتمر” الذي بقي السلاح الوحيد في يد علي عبدالله صالح بعد خروجه من السلطة وارتدائه ثوب “الزعيم”. كان الحشد في ميدان السبعين في صنعاء في الرابع والعشرين من آب – أغسطس 2017 اليوم الذي انكشفت فيه نقاط ضعف علي عبدالله صالح. كذلك، تكشفت نيات الحوثيين في ما يتعلّق بتطويقه تمهيدا للغدر به. استطاع “الزعيم” الاتيان بمئات الآلاف من المناطق المحيطة بصنعاء للمشاركة في المهرجان الذي أقيم في ذكرى تأسيس “المؤتمر”. اظهر قدرة كبيرة على الحشد الجماهيري، لكنه فشل في تحويل هذا الحشد الى قوّة ضاغطة على “انصار الله” الذين اجبروا علي عبدالله صالح عن طريق التهديد المباشر على اختصار حضوره في ميدان السبعين وعلى القاء خطاب مقتضب. مع حلول الليل وخروج القبائل من صنعاء لتعود الى المناطق التي جاءت منها، تبين ان كلّ استثمارات “الزعيم” في تلك القبائل ذهبت ادراج الرياح. هناك من اشترى هذه القبائل ووظفها في خدمة “انصار الله”، أي المشروع الايراني في اليمن.
لا حاجة الى شرح كيف تطورت الاحداث وصولا الى اغتيال “الزعيم” في بيته، بعد ثلاثة اشهر ونصف شهر، ثمّ تصوير الامر وكأنّه حاول الفرار في اتجاه مأرب وانّه قتل في اثناء هذه المحاولة. كلّ ما في الامر ان عبد الملك الحوثي الذي القى خطابا يتشفّى به بعلي عبدالله صالح كان وراء من امر بتصفيته بعد عملية تعذيب شملت قطع يديه وهو على قيد الحياة.
في السنة 2018، تمرّ ذكرى تأسيس “المؤتمر الشعبي العام” في غياب علي عبدالله صالح، هل لا يزال هناك مكان لهذا الحزب في اليمن… ام انّ “المؤتمر” انتهى مع علي عبدالله صالح؟ من الواضح ان الحزب تشظّى تماما مثلما تشظّى اليمن. على الرغم من ذلك، لا تزال هناك مجموعة تحاول انقاذ ما يمكن إنقاذه من “المؤتمر”. حجتها ان الحزب “بدأ يستعيد قواه واثبات انّه عصي على التهجين متمسّكا بوصية علي عبدالله صالح”. تضيف هذه المجموعة انّ “المؤتمر” تمكن من “صدّ محاولات الاجتثاث التي تعرّض لها من داخل اليمن وخارجه ويعدّ الآن لتشكيل قيادة تكاملية بين الداخل والخارج تضع برنامجا لإنقاذ البلد من كلّ اشكال التطرّف الديني والتعصّب المذهبي وتحفظ وحدة اليمن وتضع اسسا لعلاقة جديدة مع دول الجوار والمنطقة”.
لا شكّ ان نيات الذي الذين يعملون في هذا الاتجاه صادقة. ولكن ماذا عن الوضع الداخلي في اليمن حيث لم تعد هناك وحدة وحيث ترسخ الشرخ الطائفي والمذهبي والمناطقي؟ ماذا أيضا عن الجهود التي يبذلها الرئيس الانتقالي عبد ربّه منصور هادي الذي حضر حديثا الى القاهرة والتقى مجموعة من القياديين “المؤتمريين” المقيمين فيها بهدف وضع اليد على ما بقي من “المؤتمر”؟ كان ملفتا ان الرئيس الانتقالي لم يحقق النتائج المتوخاة، لكنّ مجيئه الى العاصمة المصرية من اجل لقاء قيادات حزبية يؤكّد ان “المؤتمر” لا يزال يمتلك اهمّية ما.
فوق ذلك كلّه، هناك قيادات “مؤتمرية” مهمّة مثل الشيخ صادق امين أبو راس ويحيى الراعي، رئيس مجلس النوّاب، تقيم في مناطق سيطرة “انصار الله”. لا تستطيع هذه القيادات لعب أي دور إيجابي في غياب ايّ هامش للحرية في المناطق الموجودة فيها.
هذا بعض مما يتعرّض له “المؤتمر” الذي لن تعود اليه الروح في ظلّ بقاء الوضع العسكري على حاله. بكلام أوضح، لن يتمكن “المؤتمر” الذي كان يمتلك في الماضي كلّ إمكانات الدولة اليمنية من احداث اختراق ما ما دام “انصار الله” يسيطرون على مناطق مهمّة في مقدّمها صنعاء وميناء الحديدة.
متى يحصل تغيير على الأرض، يعود هناك امل في الاستفادة من “المؤتمر”. فمهما فعل عبد ربّه منصور، لن يتمكن من ان يكون قائدا سياسيا يتمتع بشعبية في اليمن، خصوصا انّ لا قاعدة له في المحافظة التي هو منها، وهي محافظة ابين الجنوبية.
في انتظار ذلك، يظل مفيدا التمتع بمقدار من التفاؤل والعمل على تشكيل قيادة جديدة تبني على ما بقي من رصيد للحزب الذي اسسه علي عبدالله صالح والذي يظل حزبا وسطيا يمتلك، نظريا، وجودا في معظم انحاء اليمن. يكفي انّه حزب يحاربه الحوثيون والاخوان المسلمون في الوقت ذاته كي يكون هناك مبرّر ما لوجوده في حال عاد هناك شيء اسمه اليمن الواحد الموحّد…