لقد انقضت علينا سنواتٌ خمسٌ وأكثر كانت شديدة الصعوبة على ديننا وأمتنا. ولا يفيد كثيراً في هذا المجال الذهاب إلى أنّ التطرف والإرهاب باسم الدين ما كان هو السبب الرئيس فيما أصاب البلدان والعمران والبشر.. إذ هناك إجماعٌ عالميٌّ على ذلك. ثم إنه لا يمكننا أن نُنكر أنّ جماعات مثل «القاعدة» و«داعش» اللتين نشرتا الدمار، زعمت وتزعم أنه إنما تتصرف باسم الدين.
وقد اندفعنا، مؤسساتٍ دينيةً وأفراداً ودولاً وأنظمة، إلى الحملة على التطرف الديني، وعلى العنف الذي يُمارَسُ باسم الدين، والذي أنتج أو أَسهم في إنتاج الإسلاموفوبيا. وقد انصبّت المساعي في عدة اتجاهات: في عمليات تصحيح المفاهيم التي حرَّفها المتطرفون والإرهابيون (مثل الدين والشريعة والجهاد)، وفي تصورات التأصيل، وعلائق الدين بالدولة، والمسلمين بالآخرين. كما اندفعنا في الإنكار على التكفيريين، وفي الإنكار على أولئك الذين يدّعون تمّلك مشروعية ممارسة العنف داخل مجتمعاتنا وتجاه العالم متنكرين لأعراف العيش المشترك مع الآخرين، والأعراف السائدة في مجتمعاتنا، وهذا التذرُّر الذي اصطنعوه بظهور مئات التنظيمات ذات العقائد الغريبة والتصرفات الأغرب. كان تلامذتي بالدراسات العليا بالجامعة يسألونني قبل عشرين عاماً عندما كنتُ أُدرِّسُهم مادة علم الكلام، مُورداً نصوصاً من مقالات الإسلاميين للأشعري أو الملل والنحل للشهرستاني: هل صحيح أنّ الفرقة الواحدة انقسمت إلى عشرات النثائر الصغيرة بالأسماء المختلفة مع أنهم بالأساس كانوا يُسمَّون خوارج أو شيعة أو مرجئة أو قدرية؟! وكنتُ أقول إنّ الأمر فيه مبالغة ولاشكّ، إلى جانب إمكان ظهور اجتهادات مختلفة داخل الفرقة الواحدة. لكننا وبعد أن شهدنا ظهور مئات التنظيمات تحت هذا العنوان العريض أو ذاك، وأنّ هذه التنظيمات يقاتلُ بعضُها بعضاً على هذه الصغيرة أو تلك، ما عاد بوسعنا إنكار إمكان وجود هذه المثائل في التاريخ العقدي لأمتنا والأُمم الأُخرى. فالاختلاف الديني يحتمل انقساماتٍ أكثر بكثير من الخلاف أو الاختلاف السياسي!
وعلى أي حال، فإنّ الضرورات التي اقتضت اندفاعنا جميعاً باتجاه إنكار هذا الثوران المُضرّ المقترن بعنفٍ هائل، كانت لها فوائد أهمّها التفكير في البدائل. وقد سميتُ في بحوثي تلك البدائل أو أعطيتُها عنوان «استعادة السكينة في الدين». وقد مثّلْتُ لذلك بمبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في الإسلام. ويقول الأُصوليون القُدامى إنّ الدين كُلَّه عبارةٌ عن درء المفاسد وجلب المصالح. لقد انصبّ الجهد على مسألة النهي عن المنكر أو درء المفاسد التي طرأت على فقه الدين. وآن الأوان للعمل على الأمر بالمعروف أو جلْب المصالح!
ما عاد الأمر يحتمل الترقيع أو سدّ هذا الخرق أو ذاك عندما يظهر، بل لا بُدَّ من فقهٍ جديدٍ شاملٍ، أو منظومة أُخرى للتفكير في الدين، تصبحُ إذا جرى التوافُقُ عليها هي مستندُ الدعوة للمعروف أو للسكينة في الدين. وهذه المنظومة أو السردية الجديدة ليست اختراعاً أو بدعة، بل هي إعادة تركيب لاجتهادات قرنٍ أو أكثر من جانب علماء الدين والاجتماع العرب والمسلمين. والذي أفكّر فيه أنّ هذه المنظومة أو السردية البديلة لهذا التصدع والترقيع تقوم على ثلاثة أركان، الأول أنّ المظلة الوارفة الظلال في علاقة الله عز وجلّ ببني البشر مسلمين وغير مسلمين هي قيمةُ الرحمة التي اعتبرها القرآن الكريم علة أو أصل إرسال الرسل: {وما أرسلناك إلاّ رحمةً للعالمين}. فمناط علاقة الله عز وجل بالناس هي العنايةُ والرحمة، كما تدل آيات كثيرة. أما الركن الآخر والذي يتناول علاقة البشر ببعضهم فهو التعارُف الذي نصّ عليه القرآن الكريم أيضاً في الآية: {إنا خلقناكم من ذكرٍ وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتَعارفوا}. ويأتي الركن الثالث والذي أُسمّيه أخلاق العمل استناداً إلى الركنين الأول والثاني، ويتعلق بالضرورات أو المصالح الخمس التي يقول الفقهاء إنّ الشرائع أُنزلت لصَونها وهي: حق الحياة، وحق العقل، وحق الدين، وحق النسْل، وحقّ المِلْك أو التملك.
وتحت كل ركنٍ من تلك الأركان هناك مشكلاتٌ ناجمة عن التقاليد المتوارَثة، وناجمة أكثر عن الانشقاقات الحديثة التي أحدثها المتطرفون. وهي تتطلب أعمالاً اجتهاديةً كبرى تدخل في باب الاستعداد للنهوض واستقبال الجديد في فقه الدين وفقه العيش.