من يدعو الى انتفاضة فلسطينية ثالثة، مثل تلك التي أعلنت عنها حركة “حماس”، ردّا على القرار الخاطئ والمدان، بكلّ المقاييس، الذي اتخذه الرئيس دونالد ترامب في شأن القدس، انّما يدعو الفلسطينيين الى الانتحار. مثل هذه الانتفاضة، التي قد تحصل او لا تحصل، في غير محلّها. انهّا خدمة مجّانية لإسرائيل التي تبحث عن عذر كي يؤكّد بنيامين نتانياهو ان الفلسطينيين لا يمكن ان يكونوا شركاء في ايّ عملية سلام. علما ان رئيس الوزراء الإسرائيلي لا يؤمن بايّ عملية سلام وكلّ ما يسعى اليه هو تكريس الاحتلال لجزء من الضفّة الغربية، بما في ذلك القدس الشرقية.
ولكن، هل لدى الفلسطينيين بديل ما من عملية السلام من اجل استرجاع حقوقهم، بما في ذلك الحقّ في ان تكون القدس الشرقية عاصمة لدولتهم المستقلّة؟
ليعلن من لديه خيار آخر واقعي ما هو هذا الخيار. لم يخض الفلسطينيون مواجهة عسكرية مع إسرائيل الّا وخسروها. اذا استثنينا معركة الكرامة، التي خاضها عمليا الجيش الأردني في الواحد والعشرين من آذار – مارس من العام 1968، تبقى المعركة الوحيدة التي خاضها الفلسطينيون وخرجوا منتصرين فيها هي الانتفاضة السلمية، انتفاضة “أولاد الحجارة” في 1987 و 1988.
ما تبقّى أوهام وبحث عن جوائز ترضية لا وجود حقيقيا لها على ارض الواقع، اللهمّ الّا اذا كانت معركة تدمير فنادق بيروت في 1975 و 1976 تلبية لرغبات النظام السوري، تعتبر انتصارا. هذه هي الحقيقة المؤلمة التي لا مفرّ من الاعتراف بها في هذه الظروف الصعبة التي قرّر فيها الرئيس الاميركي الانحياز للاحتلال واحراج حلفائه العرب.
من يدعو الى مقاطعة نائب الرئيس الاميركي مايك بنس عندما يزور الشرق الاوسط، لا يريد الخير للفلسطينيين. يظلّ اكبر انجاز حقّقه ارييل شارون في اواخر العام 2000، عندما تسبّب في اندلاع الانتفاضة الثانية، التي اخطأ ياسر عرفات في اتخاذ قرار بـ”عسكرتها”، يتمثّل في قطع طريق واشنطن على “أبو عمّار”، الزعيم التاريخي للشعب الفلسطيني الذي عرف كيف يضع فلسطين على الخريطة السياسية للشرق الاوسط وادخالها الى البيت الأبيض.
لا وجود لشيء اسمه الانتفاضة من اجل الانتفاضة. ماذا اذا حصلت انتفاضة جديدة في نهاية السنة 2017؟ هل يمتلك الفلسطينيون غير مشروع العودة الى المفاوضات مع إسرائيل في رعاية وسيط أميركي يمكن ان يساعد في تحقيق بعض التقدّم؟ الأكيد انّ ثمّة من سيرد على هذا الكلام بانّ لا امل في الولايات المتحدة، خصوصا في ضوء الانحياز الاميركي الكامل لإسرائيل في موضوع القدس، وهو موضوع بالغ الحساسية.
ليس الموضوع موضوع مزايدة على الفلسطينيين بمقدار ما انّه موضوع دعوتهم الى التصالح مع الواقع بعيدا عن الافخاخ التي تنصب لهم… وبعيدا عن ايّ تفاؤل من ايّ نوع بإمكان إعادة إسرائيل النظر في سياستها العدوانية.
باختصار شديد، لا يمكن لمقاطعة نائب الرئيس الاميركي ان تفيد الجانب الفلسطيني في شيء. على العكس من ذلك، تتمنّى إسرائيل حصول مثل هذه المقاطعة. امّا العودة الى الانتفاضة، فهو استجابة لمطالب الذين لا طموح لهم سوى المتاجرة بالقضية الفلسطينية وبالشعب الفلسطيني وبالقدس تحديدا.
جرّبت “حماس” كل أنواع الحروب مع إسرائيل منذ سيطرت على قطاع غزّة في حزيران – يونيو من العام 2007. ماذا كانت النتيجة؟ بعد عشر سنوات على قيام “الامارة الإسلامية” في غزّة، اضطرّت الحركة الى الاستسلام للسلطة الوطنية الفلسطينية والتظاهر بحرصها على الوحدة الوطنية… وذلك من اجل إيجاد من يدفع لها رواتب موظّفيها في القطاع.
قد لا تكون هناك فائدة من لقاء نائب الرئيس الاميركي. لكنّ الأكيد ان لا خسارة من لقاء بينه وبين رئيس السلطة الوطنية محمود عبّاس (أبو مازن) الذي يُفترض فيه ان يفكّر مليّا بان هذه المرحلة ليست مرحلة رفع الشعارات الطنانة الفارغة من ايّ مضمون. نعم، هناك ظلم تمارسه إدارة ترامب. لكنّ ذلك لا يجب ان يؤدي الى قطيعة مع الولايات المتحدة. على العكس من ذلك، هناك حاجة الى الاستفادة من تجارب الماضي القريب، بما في ذلك التساؤل لماذا نجحت الانتفاضة الاولى وفشلت الانتفاضة الثانية؟
نجحت الانتفاضة الاولى لنّها كانت سلمية ولان الفلسطينيين حددوا هدفا واضحا تضمنّه البرنامج السياسي الذي اقرّ في دورة المجلس الوطني التي انعقدت في الجزائر في تشرين الثاني – نوفمبر من العام 1988.
أوصلت الانتفاضة الاولى الى إقامة علاقات مع الإدارة الاميركية ثمّ الى اتفاق أوسلو بحسناته الكثيرة وسيئاته أيضا. ما لا يمكن تجاهله ان أوسلو أعاد “أبو عمّار” الى ارض فلسطين. من كان يحلم ان ياسر عفات سيعود يوما الى تلك الأرض وانّه سيدفن في رام الله على مرمى حجر من القدس؟
في نهاية المطاف، تظلّ القضيّة الفلسطينية قضيّة شعب حرم من حقوقه الوطنية. هذا الشعب، الموجود على الخريطة السياسية للشرق الاوسط، لا يمكن الّا ان يجد لنفسه مكانا على الخريطة الجغرافية للمنطقة في يوم من الايّام. تبذل إسرائيل، خصوصا عبر الاستيطان كلّ جهد من اجل الغاء المساحة الجغرافية التي اسمها الضفّة الغربية وجعلها ارضا طاردة لاهلها. هذه هي المعركة التي يخوضها الفلسطينيون في ظروف غير مواتية. من بين أسباب قيام هذه الظروف، يأتي الموقف الجديد لادارة ترامب التي يبدو همّها محصورا في المزايدة على اليمين الإسرائيلي نفسه وذلك لاسباب اميركية داخلية قبل ايّ شيء آخر.
ايّا يكن الموقف الاميركي، من المفيد فلسطينيا تفادي قطع شعرة معاوية مع واشنطن. ان يكون للفلسطينيين تأثير بنسبة واحد في المئة على الموقف الاميركي، يظلّ افضل من لا شيء. الاهمّ من ذلك، انّ الولايات المتحدة يمكن ان تكون مقبلة على تطورات في غاية الاهمّية من بينها ذهاب ترامب الى بيته وحلول نائب الرئيس مكانه. هذا مجرّد احتمال وارد في ضوء الهزيمة التي لحقت بمرشّح الحزب الجمهوري الى مجلس الشيوخ في ولاية الاباما. هذا يحدث للمرّة الاولى منذ ربع قرن. خاض ترامب معركة المرشّح الجمهوري شخصيا، لكنّ الاتهامات الموجهة الى المرشّح، وهي شبيهة بتلك الموجّهة الى الرئيس الاميركي في قضية تحرّش ذات طابع جنسي، جعلته يخسر امام منافسه الديموقراطي.
عمل الفلسطينيون منذ سبعينات القرن الماضي على إقامة علاقة مع الولايات المتحدة. لم يستطع ياسر عرفات المحافظة على هذه العلاقة، علما انّه كان اكثر زعيم زار البيت الأبيض في العام 2000.
ضاع “أبو عمّار” في متاهات مرحلة ما بعد قمّة كامب ديفيد، التي جمعته بالرئيس كلينتون ورئيس الوزراء الإسرائيلي ايهود باراك صيف العام 2000. كانت تلك متاهات اغرقه فيها ارييل شارون الذي تعمّد زيارة المسجد الأقصى فور تأكّده من فشل القمّة الاميركية – الفلسطينية – الإسرائيلية. ما زال الفلسطينيون يدفعون الى اليوم ثمن قرار “عسكرة” الانتفاضة.
المهمّ في 2017 تعلّم شيء من درس العام 2000. لعلّ اوّل ما يفترض تعلّمه ان لا فائدة من ايّ قطيعة مع واشنطن، مهما كان الموقف الذي اتخذته سيئا. مثل هذه القطيعة لا يستفيد منها الّا أولئك الذين لا يرون في القضية الفلسطينية سوى مادة تصلح للمتاجرات السياسية لا اكثر…