في الايام الاخيرة من عهد باراك أوباما، يبدو من المهمّ تدارك بعض الامور التي يمكن ان تدقّ جسر انذار لمستقبل العلاقات العربية ـ الاميركية عموما والسعودية ـ الاميركية على وجه الخصوص. من بين ما يبدو مطلوباً تداركه تداعيات قانون “جاستا” الذي اقره الكونغرس الاميركي في أيلول ـ سبتمبر الماضي والذي اعترض عليه الرئيس باراك أوباما. لم ينفع اعتراض أوباما بعدما لجأ الكونغرس الى تجاوز الرئيس الاميركي باصراره على القانون بأكثرية ساحقة تبطل “الفيتو” الرئاسي.
في الواقع لم يكن باراك أوباما جدّيا في أي يوم من الايّام في افشال “جاستا”، وهو قانون يسمح للمتضررين من غزوتي واشنطن ونيويورك اللذين يقف خلفهما تنظيم “القاعدة” الارهابي بملاحقة الحكومة السعودية. أتاح القانون للمتضررين ولذوي الضحايا ملاحقة حكومة المملكة نظرا الى ان خمسة عشر إرهابيا من بين بين التسعة عشر الذين نفّذوا الغزوتين في الحادي عشر من أيلول ـ سبتمبر 2011 كانوا مواطنين سعوديين. هناك قضايا رفعت قبل ايام امام محاكم أميركية استنادا الى “جاستا”.
استخفت المملكة العربية السعودية في الماضي بـ”جاساتا” علما انّه كان مطروحا كمشروع قانون منذ العام 2008. هذا الاستخفاف عائد الى امرين. الاوّل التطمينات الصادرة عن البيت الأبيض الذي لم يتحرّك عمليا في مواجهة أعضاء مجلسي النوّاب والشيوخ الّا بعد إقرار القانون، أي بعد فوات الاوان. هذا يعني بكلّ بساطة ان أوباما كان متواطئا مع الذين قدّموا مشروع القانون وعملوا على تمريره بأكثرية كبيرة تصل الى شبه اجماع في مجلسي الكونغرس.
اما الامر الثاني الذي دفع السعودية الى الاستخفاف بالقانون عندما كان لا يزال مشروع قانون، فسببه ان المملكة لم تعد تمتلك منذ لم يعد الأمير بندر بن سلطان سفيرا في واشنطن الأدوات التي تسمح لها بان تكون لاعبا فاعلا في ما يفترض ان تكون عاصمة القرار في هذا العالم.
انتهت مهمّة بندر بن سلطان في العام 2005. كان السفير السعودي في واشنطن الذي تولّى مهماته في العام 1983 يعرف العاصمة الاميركية عن ظهر قلب. كانت لديه موازنة كافية للتحرّك في مراكز الأبحاث والكونغرس وكلّ مواقع القرار، بما في ذلك البيت الأبيض الذي كان من زوّاره الدائمين، خصوصا في عهد جورج بوش الاب وبيل كلينتون وجورج بوش الابن.
مع رحيل بندر، تقلّص الوجود السعودي في واشنطن وبات هذا الوجود مرتبطا بتطمينات تصدر عن البيت الأبيض تبيّن مع الوقت انّها ذر للرماد في العيون. قد يكون ذلك عائدا الى ان السعودية في عهد الملك عبدالله بن عبد العزيز كانت شديدة الحساسية تجاه الساسة الاميركية في العراق التي ادّت الى تسليم هذا البلد الى ايران تسليم اليد. كانت النتيجة تقليص الوجود السعودي في العاصمة الاميركية. ثمة من بات يقول مازحا ان اللوبي الأرمني في العاصمة الاميركية صار ينفق اكثر من اللوبي السعودي وصار اكثر نفوذا منه…
الملفت انّ التركيز في المرحلة الراهنة هو على مكاتب للمحاماة تتولى الدفاع عن المصالح السعودية. هذا ليس كافيا باي شكل، لا لشيء سوى لان مكاتب المحاماة، أيا تكن قدراتها، لا تستطيع الحلول مكان العلاقة القويّة مع مراكز الدراسات والكونغرس. الانكى من ذلك كلّه انّ إدارة أوباما، على رأسها البيت الأبيض كانت توفّر في كلّ وقت التطمينات التي تؤكد انّ “جاستا” لن يمر، فيما كان همّها مركّزا على توفير خروج اميركي آمن من العراق وحماية الملف النووي الايراني على حساب المصالح العربية.
في الوقت ذاته صدر عن اكثر من عضو في مجلس الشيوخ ما يفيد ان الإدارة لم تعط في ايّ يوم ايّ إشارة من ايّ نوع يفهم منها انّها غير راضية عن تمرير “جاستا”. هذا ما اكّده أخيرا في تصريحات علنية له السناتور بوب كوركر الذي أشار الى ان لم يصدر عن البيت الأبيض أي ردّ فعل، سلبي او إيجابي، على مضي مجلسي النوّاب والشيوخ في عملية تمرير “جاستا”.
لم يكن معظم النوّاب والشيوخ مهتمين بتمرير القانون الذي يعني “العدالة للمتضررين من الإرهاب الذي ترعاه الدول”. فاي شخص يمتلك حدّا ادنى من المنطق يعرف ان لا علاقة للمملكة العربية السعودية بغزوتي واشنطن ونيويورك وانّ الذين يقفون وراء هذا العمل الإرهابي كانوا ملاحقين من المملكة التي نزعت الجنسية عن أسامة بن لادن قبل فترة لا بأس بها احداث الحادي عشر من أيلول ـ سبتمبر 2011. ولكن ما العمل عندما يكون المقيم في البيت الابيض يمارس لعبة التعمية على ما يستهدفه؟ لم يكن باراك أوباما الذي رهانه الاوّل والاخير على ايران صادقا مع السعودية ومع دول الخليج العربي عموما. لم يلتزم الوعود التي قطعها للعرب. من يحتاج الى دليل على ذلك يستطيع العودة الى تصريحاته في شأن سوريا. دعم الثورة السورية شفهيا واكد غير مرّة انّ لا مكان لبشّار الأسد في سوريا، لكن كلّ ما فعله كان تأييد التدخل الايراني والروسي الذي كان بمثابة مشاركة في الحرب التي يشنّها النظام على شعب يسعى الى استعادة بعض من كرامته.
كان هناك عضو واحد في مجلس الشيوخ هو السناتور شاك شومر مصرّا على “جاستا”. يمثّل شومر ولاية نيويورك ولديه مصلحة في جعل ضحايا الحادي عشر من سبتمبر يحصلون على تعويضات. في المقابل، كان هناك اكثر من عضو في مجلس الشيوخ مثل اورن هاتش وجون ماكين او لندسي غراهام على علم بانّ المصالح الاستراتيجية للولايات المتحدة ستتضرّر من أي مواجهة مفتعلة مع المملكة العربية السعودية… ومع ذلك صار “جاستا” قانونا نافذا.
ما الذي يمكن عمله الآن؟ هناك قبل كلّ شيء جهات أميركية جدّية تؤكد ان قانون “جاستا” غير دستوري. سبق لصحيفة “وول ستريت جورنال” ان نشرت مقالا لمحاميين مرموقين يؤكدان فيه ان القانون غير دستوري وانّه يلحق ضررا بمصالح الولايات المتحدة.
يمكن متابعة هذا التوجّه في الدفاع عن الموقف السعودي عبر دعوة الرئيس أوباما الى توجيه رسالة جديدة الى مجلسي الكونغرس وذلك قبل ان يغادر البيت الأبيض. مثل هذه الرسالة الصادرة عن اوباما تفتح المجال امام السعودية للطعن بدورها في دستورية “جاستا. هل الرئيس الاميركي الذي تنتهي ولايته في العشرين من الشهر الجاري جدّي في الاعتراض على “جاستا” ام ان كلّ ما في الامر انّه كان يمارس دورا في مسرحية لا هدف منها سوى التغطية على عملية تمرير القانون؟
ايّام قليلة تفصل عن نهاية عهد أوباما. هل يمكن جعله يتحمّل مسؤولياته عبر ارساله تلك الرسالة، التي يعيد فيها تأكيد موقف البيت الأبيض، وذلك كي تكون هناك قاعدة قانونية تسمح بمتابعة التركيز على ان قانون “جاستا” غير دستوري وتمهد لطعن سعودي به عبر الاقنية الملائمة؟
في المدى الابعد، أي في مرحلة ما بعد خروج أوباما من البيت الأبيض وحلول دونالد ترامب مكانه، لن يعود ممكنا الاكتفاء بالتركيز على البيت الأبيض وعلى مكتب محاماة كبير او احدى شركات العلاقات العامة. لا مفرّ من إعادة عقارب الساعة الى خلف، أي الى ايّام بندر بن سلطان في واشنطن. هذا يطرح في طبيعة الحال مسألة في غاية الاهمّية مرتبطة بالوجود السعودي في العاصمة الاميركية، وهو وجود يفترض ان يكون على كلّ المستويات، خصوصا في الكونغرس الذي يبقى الى اشعار آخر المفتاح الاهمّ في واشنطن…